بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
اختلف أهل العلم في الحجامة للصائم هل هي من المفطّرات أم لا ، والراجح من قولي العلماء أنها لا تفطّر ، وبه قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأم سلمة وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم.[1]
وفي لفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم.[2]
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقاء على أصحابه ولم يحرمها .[3]
وعن ثابت البناني قال : سئل أنس بن مالك هل كنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال : لا ، إلا من أجل الضعف.[4]
وفي لفظ : ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد.[5]
وعن مالك عن ابن شهاب : أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان.[6]
وعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان يحتجم وهو صائم ، ثم لا يفطر . قال : وما رأيته احتجم قط إلا وهو صائم.[7]
حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" منسوخ والناسخ له حديثان :
وأما ما ثبت عن ثوبان عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :أفطر الحاجم والمحجوم.[8]
فهو حديث منسوخ بحديثين وهما :
الأول : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : رخص رسول الله في القبلة للصائم والحجامة. [9]
الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أول ما كرهت الحجامة للصائم ، أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفطر هذان ، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم ، وكان أنس يحتجم وهو صائم.[10]
والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فيكون الحديثان نصا في النسخ فوجب العمل بهما.
والقاعدة أنه إذا وجد حديثان متعارضان، ولم يمكن الجمع بينهما، لم يجز إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة إلا إذا جهل التاريخ، وهنا قد علمنا المتقدم من المتأخر فيكون المتأخر ناسخا للمتقدم، كيف وحديث أنس وأبي سعيد صريحان في نسخ الفطر بالحجامة.
أضف إلى ذلك أن التبرّع بالدم لا يفطّر المتبرّع الصائم ولا يفطّر الطبيب الذي يأخذ الدم،والذي يرى أن الحجامة تفطّر يستلزم عليه أن يقول بفطر الممرّض الذي يسحب الدم للمريض أو المتبرّع.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الصوم مما دخل وليس مما خرج .[11]
وعن عكرمة قال: الإفطار مما دخل وليس مما خرج.
وممن قال بنسخ حديث :"أفطر الحاجم والمحجوم"،الإمام الشافعي والخطابي والبيهقي وابن حزم والألباني وغيرهم.
وجاء فى "اختلاف الحديث"(1/197): قال الربيع بن سليمان : قال الشافعي : أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح ، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان ، فقال وهو آخذ بيدي : أفطر الحاجم والمحجوم . أخبرنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس : أن رسول الله rاحتجم محرما صائما.اهـ
قال الشافعي رحمه الله : وسماع شداد بن أوس عن رسول الله rعام الفتح ، ولم يكن يومئذ محرما ، ولم يصحبه محرم قبل حجة الإسلام ، فذكر ابن عباس حجامة النبي rعام حجة الإسلام سنة عشر ، وحديث " أفطر الحاجم والمحجوم " في الفتح سنة ثمان قبل حجة الإسلام بسنتين ،فإن كانا ثابتين ، فحديث ابن عباس ناسخ ، وحديث إفطار "الحاجم والمحجوم"منسوخ .[12]
وقال رحمه الله : ومع حديث ابن عباس القياس ؛ أن ليس الفطر من شيء يخرج من جسده إلا أن يخرج الصائم من جوفه متقيأ ، وأن الرجل قد يقبل وهو متلذذ فلا يبطل صومه ، ويعرق ويتوضأ ويخرج منه الخلاء والريح والبول ويغتسل ويتنور فلا يبطل صومه ، وإنما يفطر من إدخال شئٍ البدن ، أو التلذذ بالجماع أو التقيؤ ، فيكون على هذا إخراج شيء من جوفه كما عمد إدخاله فيه قال : والذي أحفظ عن بعض أصحاب رسول الله rوالتابعين وعامة المدنيين أنه : لا يفطر أحد بالحجامة.[13]
قال ابن عبد البر رحمه الله: والقول عندي في هذه الأحاديث أن حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً، ناسخ لقوله r : أفطر الحاجم والمحجوم ، لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ عام الفتح على رجل يحتجم لثماني عشر ليلة خلت من رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم، فابن عباس شهد معه حجة الوداع وشهد حجامته يومئذ محرم صائم فإذا كانت حجامته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان لأنه توفي في ربيع الأول r وإنما وجه النظر والقياس في ذلك بأن الأحاديث متعارضة متدافعة في إفساد صوم من احتجم فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها والأصل أن الصائم لا يقضى بأنه مفطر إذا سلم من الأكل والشرب والجماع إلا بسنة لا معارض له . ووجه آخر من القياس وهو ما قاله ابن عباس : الفطر مما دخل لا مما خرج.[14]
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله : صح حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، ولكن وجدنا من حديث أبي سعيد: "أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم" وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة، سواء كان حاجما أو محجوما" ولفظة "أرخص" لا تكون إلا بعد نهي؛ فصح بهذا الخبر نسخ الخبر الأول.[15]
قال الألباني رحمه الله : فائدة : حديث أنس هذا صريح في نسخ الأحاديث المتقدمة ( أفطر الحاجم والمحجوم ).[16] .
ثم قال رحمه الله بعد أن ذكر حديث أبي سعيد الخدري ط قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة.
قلت –أي الألباني- : فالحديث بهذه الطرق صحيح لا شك فيه وهو نص في النسخ فوجب الأخذ به كما سبق عن ابن حزم رحمه الله.[17]
كراهية الحجامة إذا خشي منها الضعف :
عن ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك رضي الله عنهما :أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله؟ قال: لا إلا من أجل الضعف.[18]
أي: لم يكونوا يكرهون الحجامة؛ لأنها تفطر، ولكن كانوا يكرهونها خشية أن يضعف الصائم فتأدي به إلى الإفطار.
وجاء في"الموطأ"(1/278) : "باب ما جاء في حجامة الصائم" . عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر : أنه كان يحتجم وهو صائم ، قال : ثم ترك ذلك بعد ، فكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر . وعن مالك عن ابن شهاب : أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان . وعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان يحتجم وهو صائم ، ثم لا يفطر . قال : وما رأيته احتجم قط إلا وهو صائم.
قال مالك: لا تكره الحجامة للصائم إلا خشية من أن يضعف ، ولولا ذلك لم تكره . ولو أن رجلا احتجم في رمضان ، ثم سلم من أن يفطر ؛ لم أر عليه شيئا ولم آمره بالقضاء لذلك اليوم الذي احتجم فيه ، لأن الحجامة إنما تكره للصائم لموضع التغرير بالصيام . فمن احتجم وسلم من أن يفطر حتى يمسي ؛ فلا أرى عليه شيئا ، وليس عليه قضاء ذلك اليوم.اهـ
وقال الشوكاني رحمه الله :فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة –أي التنزيهية-في حق من كان يضعف بها، وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ على حد يكون سبباً للإفطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها، وعلى كل حال تجنب الحجامة للصائم أولى.[19]
فائدة : هل خروج الدم من المفطّرات :
خروج الدم من الإنسان، -غير دم الحيض والنفاس-؛ كالتبرع بالدم، أو إخراجه للتحليل، أو خروجه بسبب رعاف أو جرح، أو بالاستحاضة، وغير ذلك ، لا يفطّر على الصحيح من أقوال أهل العلم ،لأن الأصل البراءة الأصلية وأنه غير مفطّر إلا إذا دل الدليل على كونه مفطر، ولا دليل على ذلك.
أما قياس خروج الدم للتبرع والتحليل وما شابه ذلك على الحجامة فغير مسلّم ولذلك فإن من يرى التبرع بالدم مفطرا، فإنه يجعل الفطر خاص بالمتبرع دون الطبيب أو الممرض الذي يقوم بسحب الدم وهذا تناقض فإنه يستلزم القول بفطر الطبيب أو الممرض كذلك.
وما ذكره بعض أهل العلم في علة الفطر في الحجامة على الحاجم والمحجوم، فهي محاولة لمعرفة الحكمة في ذلك ولا نستطيع الجزم بما ذكروه لعدم الدليل.
ثانيا: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم :أفطر الحاجم والمحجوم، منسوخ وقد بيّنا ذلك.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
[1] ـ أخرجه البخاري (1837)،وأحمد (2716) ، وأبو داود (2372)،وابن حبان (3531) ، والحاكم (1566) ، والترمذى (776) ، والنسائى فى "الكبرى" (3215) ، وابن ماجه (1682) .
[2] ـ أخرجه البخاري (1836).
[3] ـ أخرجه أحمد (23121)،وأبوداود(2374)،والبيهقي (8525)،وابن أبي شيبة(9590)،وصححه الألباني في "صحيح سنن ابي داود"( 2374).
[4] ـ أخرجه البخاري (1838).
[5] ـ أخرجه أبو داود (2375)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"( 2375).
[6] ـ أخرجه مالك (660)،بإسناد صحيح.
[7] ـ أخرجه مالك (664)،بإسناد صحيح.
[8] ـ أخرجه الطيالسى (989) ، وأحمد (22425) ، وأبو داود (2367) ، والنسائى فى الكبرى (3134) ، وابن ماجه (1680) ، والدارمى (1731) ، وابن خزيمة كما فى "إتحاف المهرة" (2489) ، وابن الجارود (386) ، وابن حبان (3532) ، والطبرانى (1406) ، وابن قانع (1/119) ، والحاكم (1558) وقال : صحيح على شرط الشيخين . والبيهقى (8067) . وأخرجه أيضا : عبد الرزاق (7522) ، وابن أبى شيبة (9301) ، والطحاوى (2/98) ، والطبرانى فى الأوسط (4720) ،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"( 2367).
[9] ـ أخرجه الدارقطنى (2/183) وقال كلهم ثقات وغير معتمر يرويه موقوفا ، والبيهقى (8057) .وصححه ابن حزم في"المحلى"(6/204) ، وصححه الألباني في "الإرواء"(4/80) .
[10] ـ أخرجه البيهقي (8561)،والدارقطني (8) وقال : كلهم ثقات ولا أعلم له علة،وصححه الألباني في "الإرواء" (4/ 73) .
[11] ـ أخرجه البيهقي (579) ، وانظر "مجمع الزوائد" (1/252) ، و"نصب الراية" (2/ 253) وحسنه النووي في "المجموع" (6/327) ، وقال ابن حجر الهيثيمي : إسناده حسن أو صحيح " إتحاف أهل الإسلام"( ص :121 ). وذكره الإمام البخاري في " صحيحه " باب الحجامة والقيء " (ص 260) تعليقا فقال : وقال ابن عباس وعكرمة : الصوم مما دخل وليس مما خرج. اهــ
[12] ـ "الأم"(2/119)
[13] ـ "الأم"(2/119)
[14] ـ "الاستذكار" (10/125-126) .
[15] ـ "المحلى"(6/204)
[16] ـ "الإرواء " (4/73)
[17] ـ"الإرواء" (4/75) .
[18] ـ أخرجه البخاري (1838).
[19] ـ "نيل الأوطار" (4 / 203)