مِن نور السُّنة... اللهم جدد إيماننا
......
كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).
اللغويات:
(لَيَخْلَقُ): بفتح اللام، أي يكاد يبلى.
(فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ): أي في قلب أحدكم؛ لأنه محل الإيمان.
(كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ): على سبيل الاستعارة، وتقريب المعنوي في صورة المحسوس؛ للتنبيه والاهتمام، وهذا مِن حُسن تعليمه -صلى الله عليه وسلم-.
المعنى العام:
يخبرنا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن الإيمان لا يستمر على حال، وإنما يزيد وينقص، كما لا يدوم الثوب الجديد على حال، وإنما يبلى بطول الزمان والاستعمال؛ فاسألوا الله -تعالى- مقلب القلوب أن يجدد الإيمان في قلوبكم، وأن يجعله جديدًا حيًّا في قلوبكم.
الفوائد الإيمانية:
1- الحديث دليل لمذهب أهل السُّنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والغفلة، وهذا يوجب على كل منا أن يهتم بإيمانه، وأن يأخذ بأسباب زيادته، والحذر مِن أسباب نقصه وضعفه.
2- الاهتمام بصلاح القلب؛ لأنه أشد تقلبًا مِن القِدر إذا اجتمع غليانًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا) (أخرجه أحمد وابن أبي عاصم في السُّنة، وصححه الألباني)، ولأن صلاحه صلاح الجسد كله، وفساده فساد للجسد كله.
3- الأخذ بأسباب زيادة الإيمان، ومِن أهمها كما أرشدنا -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء" (فَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ).
- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَوَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْقُلُوبَ، أَوْ قَالَ: قَلْبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيِ اللَّهِ، إِذَا شَاءَ أَنْ يُقَلِّبَهُ إِلَى هُدًى قَلَّبَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقَلِّبَهُ إِلَى ضَلَالَةٍ قَلَّبَهُ" (المصنف لابن أبي شيبة).
- ومِن دعائه أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
ومِن دعائه أيضًا: (وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا) (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني).
ومِن دعائه أيضًا: (اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).
وكان مِن دعاء ابن مسعود -رضي الله عنه-: "اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا, وَيَقِينًا, وَفِقْهًا".
ومِن أسباب زيادة الإيمان أيضًا:
أ- التريض في رياض أسماء الله الحسنى وصفاته العُلا؛ بمعرفتها ومعرفة معانيها، والتعبد لله -تعالى- بمقتضاها.
ب- طلب العلم الشرعي، والحرص على حضور مجالس العلم التي سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- رياض الجنة، وحثنا على حضورها، وأخبرنا أنها مجالس مباركة تنزل فيها الطمأنينة والرحمة، وتحضرها الملائكة، وسبب لنيل مغفرة الله ورحمته ورضوانه.
ج- تلاوة القرآن بالتدبر وحضور القلب، وطريق ذلك كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "نقل القلب إلى وطن الآخرة كأنها رأي عين! وأن تجعل همك الفهم للعمل".
د- قراءة السنة بتدبر وتفهم أيضًا فإنها وحي وذكر، قال الله -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44).
و- التحاب في الله والتزاور فيه، والتناصر والتعاضد لنصرة دينه الله -تعالى- وإقامته في الأرض.
هـ- تقديم محاب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على محاب النفس لا سيما عند غلبات الهوى.
ي- النظر والاعتبار بآيات الله -تعالى- المشهودة في كونه.
ك- اللهج بذكره -تعالى-، ومن ذكره: ذكر نعمه ومننه عليك؛ فإن المحبة على حافة المنن.
- الإحسان: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195)، (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات:121).
- التقرب لله -تعالى- بالنوافل بعد الفرائض؛ فبها تُناول المحبوبية كما في الحديث القدسي، يقول الله -تعالى-: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري).
والباء في قوله -تعالى-: (بِه) للتوفيق والتسديد، أي يوفقه الله -تعالى- في جوارحه كلها فيطيعه بها لا أن يعصيه، ويحفظها له عند حاجته كما في الحديث: (احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
الصلاة بحضور قلب وخشوع؛ روضة وقرة عين كما كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
وتكون له راحة لا سيما عند الشدة والكرب كما كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا؛ إذ كان يقول لبلال -رضي الله عنه-: (أَقِمِ الصَّلَاةَ يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا؛ لما فيها مِن مناجاة مَن لا تقر العيون، ولا تطمئن القلوب، ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره، والتذلل والخضوع له، والقرب منه، ولا سيما في حال السجود، وتلك الحال أقرب ما يكون العبد مِن ربه فيها، ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَقِمِ الصَّلَاةَ يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِهَا)... ثم ذكر -رحمه الله- ستة مشاهد إن اجتمعتْ في صلاة العبد كانت قرة عين له.
1- الإخلاص.
2- الصدق والنصح (أي يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله).
3- المتابعة والاقتداء، أي يصلي كما كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي.
4- الإحسان: وهو المراقبة.
5- المنة: أي يشهد أن المنة لله في كونه أقامه بين يديه.
6- التقصير: أنه مهما بالغ واجتهد في القيام بالأمر فيشهد تقصيره في حق الله -تعالى-" (اهـ ملخصًا من رسالة ابن القيم لبعض إخوانه ص59-70).
- الدعوة إلى الله -تعالى- بتحبيب الله إلى الناس، وتحبيب الناس في رب العالمين -تعالى-، وأخبرنا -صلى الله عليه وسلم- أن هناك ارتباطًا بين الإيمان والدعوة إلى الله -تعالى- زيادة ونقصًا، قوة وضعفًا، فقال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم).
- فمن زاد إيمانه زاد نشاطه وعمله الصالح عمومًا ودعوته إلى دينه خصوصًا.
وبعد، فما أحوجنا في أزمنة الفتن إلى الاهتمام بإيماننا ووسائل تجديده في القلوب، والحذر من ضدها التي تؤدي إلى تسلط السيطان على العبد حتى يأكله أكلاً -عياذًا بالله-.
فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
....
صوت السلف
salafvoice