كل من أمعن النظر في الجزاء الذي أعده الله تعالى لكل ما يصدر من الإنسان المكلف المسؤول وما يترتب على عمله من ثواب أو عقاب يتضح له بأنه يمتاز بعدة خصائص تمييز عن كل الجزاءات التي كانت من نتاج العقول البشرية على وجه الأرض، ومن أبرزها:
1- العدل والرحمة:
فهما أساس الجزاء الالهي كما يظهر من نصوص القرآن والسنة. وسوف أقوم فيما يلي بعرض الأدلة القرآنية التي تقرر وتؤكد كلا منهما على حدة.
أ- العدل:
إن الله تعالى هو العدل. فلما كان هو العدل وأقام نظام الكون على العدل، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾[1]، وجعل شريعته عدلا، فلا غزو أن جعل العدل شأنه في جزاء عباده على أعمالهم في الدنيا والآخرة. فالعدل وما يشتق منه العدالة والمعادلة يفيد معنى المساواة أي المساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ولقد جاءت الآيات البينات في كتاب الله تعالى تؤكد ذلك تأكيداً صريحاً يقول تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾[2]، يخبر الله تعالى أنه لا يظلم أحداً من عباده يوم القيامة مثقال حبة من خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها أن كانت حسنة اضعافاً كثيرة، ففاعل الخير يوفيه الله تعالى ثواب أعماله لا ينقصه منها شيء أبدا تحقيقاً لوعده تفضلا منه وإحساناً وكرماً سبحانه وتعالى قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾[3]، يذكر الله عز وجل أنه يتقبل الأعمال الصالحة من عباده وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم ولا ينقصهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو النقرة في ظهر النواة. كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾[4].
ب- الرحمة:
إن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه رحمان ووصف نفسه بالرحيم والإسمان الجليلان مأخوذان من الرحمة. يقول الراغب: «والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو: رحم الله فلانا. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون القرة وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال ومن الآدميين رقة وتعطف[5].
وقد وصف الله نفسه بالرحمن الرحيم وجمع بينهما في آية البسملة التي جعلها سبحانها مفتتح كل سورة من سور القرآن الكريم. وذكر القرآن الكريم في أماكن كثيرة بأن الله أرحم الراحمين على لسان كثير من الأنبياء عليهم السلام، كما قال على لسان موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[6]، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [7]، يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيها وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي»[8].
ويقول الطبري: وقوله كتب على نفسه الرحمة يقول: إخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة. ويقول منهم الأنابة والتوبة هذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة[9].
وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين كونه شديد العقاب وبين كونه غفور الرحيم مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[10]، وإذا تدبرنا في الجزاء الإلهي نجد أن رحمة الله تعالى تحيطه وتطبعه في كل جانب من جوانبه وتتمثل جوانب الرحمة في الجزاء الذي رتبه الله تعالى لعباده على أعمالهم فيما يأتي:
أولاً: أن الله يجزى المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وأعد ذلك ترغيباً في الخبر وترهيباً من الشر حتى يندفع الفساد ويعم الخير والصلاح.
ثانياً: أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده بمجرد الهم بالمعصية، بل إذا هم بدون عزم وتصميم ثم ترك لوجه الله تعالى وخوفاً من عقابه كتبت له حسنة. كما قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾[11].
ثالثاً: من رحمة الله تعالى في الجزاء أن جعل التوبة فرضا وواجباً وسبباً يمحو الله به الذنوب ويغفرها. كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[12].
رابعاً: ومن آثار ورحمة الله تعالى وسعة فضله في الجزاء أن جعل الله العقوبات والحدود كفارات ما دام يتلقاها المخطئ ويتقبلها برضى وتسليم واقتناع بحكم الله تعالى.
2- الجزاء شامل لكل الأعمال:
فقد بين القرآن بأن الله تعالى أحاط بجميع أعمال خلقه، ما كان كبيراً منها أو صغيراً، وجهرياً أو سرياً، في كل لحظة وأوان، لا يغيب عن علمه منها شيء، ولا يغادر كتبه شيئا منها إلا أحصاه، وأنه أعقبها بملائكة كرام يحفظون خيرها وشرها، فقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته وجميع الخلائق: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾[13].
3- العمل سبب لحصول الجزاء:
قال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[14]، أي بسبب الذي كنتم تعلمونه، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[15].
قال القرطبي «في هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وأن ما عدا العمل يتلاشى، فكل أمان مجردة في نيل ثواب كريم تزول، وكل سبب من حسب ونسب وشفاعة ومال وبنين مما لها تأثير في الحياة الدنيا ينقطع، ليبقى العمل وحده سبباً للجزاء[16]، قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [17]، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [18]. قال ابن كثير: ليس لأحد نجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع شرعه[19].
4- الجزاء دنيوي وأخروي:
فقد بين القرآن جزاء الله تعالى في الدنيا إجمالاً وجزاءه في الآخرة تفصيلاً، فقال تعالى واعداً من عمل صالحاً بالحياة الطيبة. قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [20]، وقال تعالى متوعداً من حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعى في الأرض فساداً بعقوبة زاجرة في الدنيا كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [21].
[1] سورة الرحمن. آية 7.
[2] سورة النساء. آية 40.
[3] سورة النساء. آية 124.
[4] سورة النساء. آية 49.
[5] المفردات في غريب القرآن، ص: 100.
[6] سورة الأعراف. آية 151.
[7] سورة الأنعام. آية 12.
[8] صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم الحديث: 14، ص: 1192.
[9] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 6/395.
[10] سورة الرعد. آية 6.
[11] سورة الأنعام. آية 160.
[12] سورة الأنعام. آية 54.
[13] سورة يونس. آية 61.
[14] سورة النحل. آية 32.
[15] سورة البقرة. آية 281.
[16] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 3/376.
[17] سورة النجم. آية 39 – 41.
[18] سورة النساء. آية 123، 124.
[19] تفسير القرآن العظيم ، لإبن كثير، ص: 535.
[20] سورة النحل. آية 97.
[21] سورة المائدة. آية 33. راجع أيضاً «كتاب المسؤولية الخلقية والجزاء عليها»، ص: 358 – 361.
شبكة الألوكة