( إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها؛ لم يدخل جنة الآخرة )
شيخ الإسلام ابن تيمية
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي عليه افضل الصلاة و السلام ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه) [صححه الألباني ].
الكثير من الناس يستدل بهذا الحديث اللطيف على قوة احتمال النبي عليه افضل الصلاة و السلام للقيام, وكلامهم لا يخلو من الصحة،
ولكن ألم تسأل نفسك أبدًا، كيف استطاع النبي عليه افضل الصلاة و السلام أن يحتمل كل هذا الوقت، ناصبًا قدميه، قائمًا, وقريبًا منه راكعًا, وقريبًا منهما ساجدًا، واضعًا جبهته الشريفة على الأرض, ولا يظهر عليه أي بوادر للألم أو الشكوى؟ !
ووقفته عليه الصلاة و السلام ليست وقفة رجل يتألم؛ ولكنه يجاهد نفسه ويضغط عليها, كلا ولكنك تستشعر من قول حذيفة رضي الله عنه: (يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ)؛ أن النبي عليه الصلاة و السلام يستلذ هذه الوقفة، ولا يشعر فيها بأي ألم .
ويأتيك الجواب فورًا حين تنكشف لك حقيقة لذة الطاعة وحلاوة الإيمان .
نعم أخي الحبيب، لذة للطاعة تشعر بها في قلبك، وحلاوة للإيمان تذوقها نفسك، وتدفعك دفعًا لعشق الطاعة والحسنات، وبغض المعاصي والسيئات .
إنها جنة الدنيا، كما سماها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , إنها الجنة التي لما دخلها الداراني قال: (إنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طربًا من ذكر الله؛ فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا؛ إنهم لفي عيش طيب ).
إنها الجنة التي تُنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها، بل تنسيه تعب العبادة ونصبها، وكلل الأبدان وملالها، ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها أن قال من شدة سروره: (لو يعلم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه ـ يعني من النعيم ـ؛ لجالدونا عليه بالسيوف ).
إنها الجنة التي من حُرِم من دخولها؛ صار مسكينًا ولو امتلك كنوز الدنيا، كما قال أحد ساكنيها: (مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، ومعرفته، وذكره ).
إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب؛ فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها، كما قال سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم: ((حُبب إليَّ من دنياكم الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة )) [ صححه الألباني]؛ أي منتهى سعادته صلى الله عليه وسلم وغاية لذته في تلك العبادة التي يجد فيها راحة النفس، واطمئنان القلب، فيفزع إليها إذا ح**ه أمر، أو أصابه ضيق، أو أرهقه عمل، وينادي على بلال: ((أرحنا بها.. أرحنا بها))[صححه الألباني ].
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (الإيمان له حلاوة وطعم يُذاق بالقلوب، كما يُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها ).
إنها الجنة التي ندعوك لدخولها أخي الحبيب في العشر الأواخر من رمضان .
إنها مرحلة حياة القلب، وعودته إلى فطرته التي فطره الله عليها، رقيقًا لينًا، يتذوق الآيات، ويتأثر بالموعظة، ويرق لأحوال المساكين والفقراء، يقشعر من ذكر الله عز وجل، ثم يلين بعد ذلك إليه: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ))[الزمر:23 ].
إنها المرحلة التي إن ذقتها أخي الحبيب؛ فلن تتمنى شيئًا بعدها من متاع الدنيا الزائل، ولتمنيت بعد ذلك أن تستمر عليها، ولو بذلت في ذلك الغالي والنفيس .
من ذاق طعم شراب القوم يدريه ومن دراه غدًا بالروح يشريه
وها قد دخلت العشر الأواخر أشد الأيام اجتهادًا، فلابد أن تتأهب من الآن .
ولنبدأ بالعبادات الثابتة :
1. صلاة الفرائض في المسجد، وخاصة الفجر، مع تكبيرة الإحرام والخشوع .
2. كل نوافل الصلوات مع الخشوع؛ فتصبح كالتالي: ركعتان قبل الفجر، وركعتي الضحى، وأربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع ركعات قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وبين كل أذانين صلاة، كما أخبر النبي r.
3. صلاة التروايح في المسجد مع الخشوع .
4. قراءة ثلاثة أجزاء من القرآن .
5. أذكار الصباح والمساء مع التفكر في الذكر والخشوع .
6. الصدقة اليومية .
7. الدعاء بالعتق يوميًا .
8. الدعاء بنيل محبة الله كل يوم .
9. التهجد بجزء في السحر .
10. صلاة الوتر .
11. سنة جديدة كل يوم .
12. الاعتكاف إن استطعت لتتحرى ليلة القدر ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
والفارق أيها الحبيب، أننا نبحث في هذه المرحلة عن لذة الطاعة وحلاوتها، وليس فقط عن تأديتها، كما في المراحل السابقة , ولذلك يجب أن تعلم أن الموضوع ليس بالهين، ولا باليسير إلا على من يسر الله له، (وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة على التكره والتعب أولًا، فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذة، قال أبو يزيد: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك ).
فعلى سبيل المثال؛ إذا أردت أن تتدبر القرآن، فهناك طريقتان للتدبر :
أولًا: أن تتدبر الآيات حسب تسلسلها، واستخراج المعاني التي ترد في خاطرك وتسجيلها .
ثانيًا: أن يكون تدبرك موضوعيًا، أي أن تختار موضوعًا معينًا، ثم تبدأ في تتبع هذا الموضوع أثناء قراءتك، والبحث عن الآيات المناسبة له في أثناء وردك, كرحمة الله، أو آثار الذنوب والمعاصي، أو الإنفاق في سبيل الله، أو صفات المتقين .
وكتطبيق عملي للطريقة الأولى إذا كنت تقرأ سورة البقرة مثلًا؛
تمر عليك أول خمس آيات، وتحاول أن تستخرج منها بعض المعاني، فحينما تقرأ قوله تعالى: ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)) [البقرة:2]، وتشعر أن الله عز وجل يقر حقيقة خالدة؛ أن في هذا الكتاب الذي تقرؤه أنت الآن هدى، وصلاح، وفلاح، ولكن للمتقين، ومن ثم سيخبرنا الله عز وجل بعد ذلك بصفات المتقين، الذين سيكون هذا الكتاب هدى لهم؛ حتى يحاول من يقرأ أن يتصف بهذه الصفات، ولذا فصل الله عز وجل بعد ذلك هذه الصفات، بقوله: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)) [البقرة:3-4]، فهم يؤمنون بالغيب كله، ويحافظون على صلاتهم، وينفقون أموالهم، كما أنهم يؤمنون بالقرآن والسنة، وكل ما جاء به النبي r ، ويوقنون بالآخرة، والجنة، والنار، ويؤمنون بها، وكأنهم يرونها رأي العين .
وهكذا تستمر في التلاوة بهدوء وسكينة في مكان لا يشوش عليك فيه أحد ويا حبذا لو كنت معتكفا، وتستمر التدبر، وتسجيل هذه الخواطر التي تمر عليك، ويساعدك على ذلك أن يكون على هامش المصحف معان لبعض الكلمات، التي ربما يستعصي عليك فهمها،
وكتطبيق عملي للطريقة الثانية وهي التدبر بالموضوع .
لنأخذ موضوع مثل رحمة الله عز وجل، وحين تشرع في القراءة في سورة البقرة أيضًا على سبيل المثال؛ لتبحث عن آيات تدل على رحمة الله عز وجل، فتجد أول آية: ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ))[البقرة:2 ] ، وتتأمل كيف أن الله عز وجل منَّ على البشر، وأنزل إليهم هذا الكتاب المعجز، الذي فيه دستور حياتهم، وطريقة معاشهم، ولم يكتفي بهذا سبحانه، ولكن من رحمته جعل فيه هدى وصلاح وتوفيق، لمن اتصف بصفات المتقين، التي سيذكرها فيما وراء ذلك من الآيات .
وتستمر في التلاوة حتى تصل لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) [ البقرة:21-22]، فتتأمل في هذه الآيات رحمة الله الظاهرة، حين يأمرنا بعبادته وحده، ويذكرنا بأنه هو الذي خلقنا سبحانه، وكأنه يحذرنا وينبهنا حبًا لنا وخوفًا علينا من عاقبة عبادة غيره، والتوجه إليه بالطلب أو السؤال، ثم يعدد بعدها الله عز وجل نعمه علينا، التي لا تُعد ولا تُحصى، والتي وهبها لنا بلا مقابل، لا لشيء إلا لتيسر علينا الحياة، وتهون علينا العيش في هذه الدنيا .
وهكذا تستمر في التلاوة لتبحث عن الآيات التي تدل على رحمة الله عز وجل؛ فتستخرج كنوز الآيات, فتسمو روحك ويرق قلبك لتخرج من رمضان إنسانا جديدا تستقبل الحياة بعين جديدة وروح جديدة مقبلة على الله ومحبة للخير .
نسأل الله أن يبلغنا ليلة القدر وأن يعيننا عليها وأن يجعلنا ممن يقومونها إيمانا واحتسابا
أهم المراجع:
صيد الخاطر، ابن الجوزي.
جامع العلوم والحكم، ابن رجب.
فتح الباري، ابن حجر.
طريق الهجرتين، ابن القيم.