دراسة وملاحظات حول قانون 89/ 1998
العقد المتوازن ضرورة اقتصادية لتعديل قانون المناقصات والمزايدات
تشهد مصر في العقود الأخيرة محاولات لإحداث تغييرات جوهرية في السياسة الاقتصادية سعيا وراء اللحاق بالركب الاقتصادي العالمي المتسابق إلي سياسة اقتصاد السوق وعليه فقد بدأ وضع تشريعات وقوانين تعكس هذا التوجه الاقتصادي الجديد ومن أهمها قانون المناقصات والمزايدات رقم 1998/89 خاصة فيما يتعلق بصناعة التشييد نظرا لأهميتها التي تنبع من أنها أكبر صناعة في مصر بل والعالم بلا منازع.
أبرز وأهم ما يجب أخذه في الاعتبار ان صناعة التشييد بطبيعتها محفوفة بمخاطر يتعرض لها المقاول لا يمكن تجنبها ولم يكن من الممكن التنبؤ بها أو بتأثيرها علي المشروع، دعا ذلك إلي الاهتمام بموضوع المخاطر في صناعة التشييد في العقدين الأخيرين علي المستوي الدولي حتى أنه تم تطوير علم جديد يعرف باسم «تحليل وإدارة المخاطر في صناعة التشييد والبناء». اتفق الخبراء علي أنه من مصلحة صاحب العمل الاقتصادية ان يتم توزيع المخاطر وأنه يجب التخلي عن الفكرة العقيمة بأن يتحمل المقاول وحده كل المخاطر، أي انه بعد خبرات مئات السنوات خلص الفكر الإنساني إلي أنه لابد أن يتحمل صاحب العمل معظم المخاطر مراعاة لمصلحة المشروع الاقتصادية.
يجب أن نأخذ في الاعتبار أن عقد التشييد يكاد يكون العقد الوحيد الذي يتم فيه تحديد سعر المنتج النهائي قبل أن تبدأ عملية الإنتاج، وهذا يعني أن المقاول يتكبد مصاريف باهظة في إعداد العطاء وهو لا يضمن انه سيفوز في المناقصة، فإذا افترض مثلا ان عشرة مقاولين تقدموا بعطاءات لمشروع ما ففرصة خسارة أي منهم تبلغ 90%.
لذا فقد تطورت شروط العقود بما يقلل من المخاطر التي يتعرض لها المقاول حيث تبين بما لا يدع مجالا للشك ان التوازن التعاقدي يؤدي إلي مشروع أفضل سواء من ناحية التكلفة أو الجودة أو الفترة الزمنية التي يتم فيها التنفيذ وذلك للاعتبارات الآتية:
1 ـ انخفاض الجودة يزيد من تكاليف الصيانة ويقلل العمر الافتراضي للمشروع.
2 ـ توازن العقد يؤدي إلي إنجاز المشروع في الوقت المحدد أو بأقل قدر من التأخير.
3 ـ قدر أقل من المشاكل والنزاعات.. الخ.
يرفض البعض فكرة التوازن التعاقدي في العقد الإداري بسبب مواريث فكرية بالية ظنا منهم ان عدم التوازن يحقق المصلحة العامة. والحقيقة أنه قد آن الأوان لمراجعة تلك المواريث في ظل التطورات العالمية خاصة بعد أن تبين ان هذه الأفكار تؤدي في الواقع الفعلي إلي الإضرار بالمرفق العام وهو عكس ما يبتغيه المشرع!
لابد من وقفة جادة لإعادة النظر في الفكر السائد والتحرر منه إذا لزم الأمر لتحقيق المصلحة العامة وحماية المال العام فضلاً عن تحقيق العدالة لطرفي العقد علماً بأن توجهات جهة الإدارة الإيجابية ستساعد علي خلق بيئة صالحة تساعد القطاع الخاص أيضا علي القيام بمسئولياته بعد السلبيات التي ظهرت في صناعة التشييد نتيجة تطبيق قانون 1983/9 و1989/98. فقد قام القطاع الخاص ـ وفي غياب العلم بأهمية وجود وتطبيق عقد متوازن يتبنى الكثير من المفاهيم الواردة في القانونين بل وأسوأ منها أحيانا.
لقد آن الأوان أن يدرك صاحب العمل أن هناك نفعا اقتصاديا مباشرا سيعود علي مشروعه في وجود علاقة تعاقدية متوازنة.
في ضوء الدراسات للمشاكل التي تعرضت لها المشروعات في مصر نناقش بعض المواد الهامة في قانون رقم 1998/89 ولائحته التنفيذية وأنوه إلي أنني استخدمت في المقال رمزي (ق) رمزا للمادة في القانون و(ل) للمادة في اللائحة التنفيذية.
- الدفعات الجارية «22 (ق)/85 (ل)»: تتحقق أهمية الدفعات الجارية في تحقيق التدفقات النقدية اللازمة لتنفيذ المشروع طبقا للبرنامج الزمني. ومن الجدير بالذكر أن ترك الأمر جوازا لجهة الإدارة يؤثر سلبا علي مدة تنفيذ المرفق العام وجودته وبالتالي علي تسييره وكفاءته. لاسيما وأن المتعاقد مع الإدارة لا يستطيع التوقف عن التنفيذ استنادا إلي قاعدة الدفع بعدم التنفيذ.
- تذبذب الأسعار: قال أحد الخبراء الأمريكيين: «إذا كان كبار خبراء الاقتصاد لا يستطيعون أن يفيدونا بما سوف يكون عليه اقتصاد البلاد بعد عدة أشهر فكيف يتسنى للمقاول معرفة ما لا يمكن لكبار خبراء الاقتصاد معرفته، ومن ثم أخذه في الاعتبار عند إعداد العطاء؟».. إننا نطلب المستحيل من المقاول بأن يتحمل مخاطر تثبيت الأسعار خلال فترة تنفيذ المشروع.
- تذبذب سعر العملة: يجب أن يكون هناك آلية تتحمل بواسطتها جهة الإدارة التقلب في أسعار الصرف حيث أنه ليس من العدل أو المنطق السليم أن ينفق المقاول مبالغ لم تكن في حسبانه عند التعاقد وبالتالي يصبح ممولا لمشروع هو ليس شريكا فيه.
- مراعاة أولوية العطاء «78 (ل)»: إعمال المادة ينتج عنه إلزام المقاول بأسعار مقاول آخر وهو أمر عجيب حقا. إن الهدف من وضع هذه المادة هو منع التلاعب عندما يعلم أحد المقاولين مسبقا أنه سيحدث زيادة في كميات بند ما فيزيد من سعر وحدة هذا البند بحيث لا يؤثر ذلك علي قيمة عطائه فيربح مبالغ غير مستحقة من جراء زيادة كميات البند. فهل يفترض المشرع فساد كل جهات الإدارة لكي يضع مادة في القانون تطبق علي كل المشروعات بالضرورة بحيث تلزم المقاول الذي فاز في المناقصة بأسعار مقاول آخر؟
- المسئولية عن التصميم «3 (ل)/80 (ل)»: تنص المادة 3 (ل) علي أن الطرح يكون علي «أساس مواصفات فنية دقيقة ومفصلة يتم وضعها بمعرفة لجنة فنية ذات خبرة..» ثم يفاجئنا ما ورد في المادة 80 (ل) أن: «يلتزم المقاول بأن بتحرى بنفسه طبيعة الأعمال وعمل كل ما يلزم لذلك من اختبارات وغيرها للتأكد من صلاحية المواصفات والرسومات والتصميمات المعتمدة وعليه إخطار الجهة الإدارية في الوقت المناسب بملاحظته عليها ويكون مسئولا تبعاً لذلك عن صحة وسلامة جميع ما ورد بها كما لو كانت مقدمة منه».
- فكيف نلقي بمسئولية التصميم علي المقاول رغم أن الذي أعد التصميم استشاري المالك وليس المقاول؟
- إن هذا النص يشكل دعوة للاستشاريين بألا يقوموا بتأدية واجبهم ومن ثم يؤدي إلي انخفاض مستوي الاستشاري المصري الذي هو بحاجة إلي الارتقاء نظرا لتدني المستوي الحالي.
- التحكيم «23 (ق)/ 83 (ل)»: أباح القانون اللجوء إلي التحكيم بشرط موافقة الوزير المختص أو من يقوم باختصاصاته فيكون بالتالي قد أخذ باليد اليسرى ما أعطي باليمني، ولدينا أسئلة:
- لن يصدر حكم لصالح المتعاقد إلا إذا كان سيتحقق التعويض فلماذا الخوف والتردد من اللجوء إلي التحكيم ووضع العراقيل أمام إنجاحه؟
- لماذا اشتراط الحصول علي موافقة الوزير حيث يتمكن بعض المتعاقدين من الحصول علي الموافقة ومعظمهم لا يتمكن من ذلك وفي هذا ازدواج في المعايير.
- هناك دول يقر قضاؤها قرارات الموافقين Adjudicators ونحن مازلنا نحبو لإقرار ودعم التحكيم في العقود الإدارية، فهل هذا هو أقصي قدر من الشفافية الذي يمكننا تحقيقه؟
- غرامات التأخير «23 (ق) / 83 (ل)»: لابد أن يتم تطبيق الغرامات بالمفهوم التعويضي خاصة وأن القانون ينص نصا صريحا علي إمكانية إعفاء المتعاقد من الغرامة إذا لم ينتج عن التأخير ضرر ويلزم مراعاة الآتي:
- أن هامش الربح في عقود التشييد يتراوح بين %2 و%5 من قيمة المشروع وقد أدت الظروف الاقتصادية الحالية إلي انخفاض هذا الهامش.
- تطبيق الحد الأقصى للغرامة يتم في فترة زمنية قصيرة جدا بل وثابتة = 70 - 61 يوما لذلك اقتضت حكمة التشريع في الدول المتقدمة تطبيق الغرامة علي فترة زمنية تتناسب مع مدة تنفيذ المشروع.
- أولوية المنتج: أوصي بألا تطبق أولوية المتعاقد علي إطلاقها، وإنما في حالة تساوي المتعاقد المحلي في الجودة مع المتعاقد الأجنبي وذلك لضمان تحقيق المصلحة العامة المنشودة في الجودة. يلزم أيضا مراعاة حق المستهلك المصري الغلبان في الحماية من المنتجين المحليين الذين يحصلون علي هوامش ربح عالية جدا مقابل جودة منخفضة جدا وذلك بتحفيز رجل الأعمال المصري علي رفع الجودة وهذا لم ولن يتم بمجرد الحماية المطلقة.
- المظروفين الفني والمالي «10 (ق)/ 8 (ل)/ 57 (ل)»: يتطلب القانون تقديم العطاءات في مظروفين أحدهما للعرض الفني ونري أن هذا غير مطلوب ـ بل غير مرغوب فيه ـ في كل الأحوال في حالات معينة مثلما إذا قامت جهة الإدارة بالتأهيل السابق Prequalification فيكون هذا الطلب في القانون تكراراً لخطوة تم الانتهاء منها بالفعل. كما أن هذا الشرط ينبغي ألا يكون مطلوباً في المشاريع البسيطة العادية التي يمكن لأي مقاول مسجل في اتحاد المقاولين تنفيذها.
- إلغاء المناقصة «15 (ق)/ 29 (ل)»: إن إلغاء المناقصة إذا لم يقدم سوي عطاء واحد يترتب عليه خسائر تكاليف إعداد دراسات الجدوى وتصميم المشروع وإعداد وثائق العطاءات وطرحها مما يؤدي إلي انعدام الثقة في مصداقية جهة الإدارة. أما فيما يتعلق بإلغاء المناقصة إذا كانت قيمة العطاء الأقل تزيد علي القيمة التقديرية.. فإنني أوصي بعكس ذلك تماما بأن يستبعد صاحب العطاء الأقل من القيمة التقديرية كما هو حادث في الدول المتقدمة. إن محاولة رب العمل الحصول علي مشروع بسعر أقل من تكلفته + ربح معقول ينتهي في الواقع بمشروع بتكلفة أعلي + جودة أقل + تكاليف صيانة أعلي + فترة زمنية أطول لتنفيذ المشروع + نزاعات + زيادة الأسعار في السوق + عمر افتراضي أقصر وذلك تحسبا من المقاول للأخطار الناجمة عن التعامل مع مثل هذا النوع من أرباب العمل.
وبذلك يكون قد اتضح أنه من الأفضل لجهة الإدارة أن تقلل المخاطر علي المقاول حيث أن ذلك يؤدي إلي أسعار عطاءات مناسبة لا تشمل هوامش إضافية لتغطية المخاطر المحتملة من عقد غير متوازن حيث يتحمل رب العمل في هذه الحالات صرف مبالغ إضافية حتى في حالة عدم تعرض المقاول لتلك المخاطر. إن التوازن في العلاقة التعاقدية يصب في صالح المشروع وبالتالي في صالح المواطن الغلبان؟ وإلا فلماذا تتصورون أن حكومات دول متقدمة ـ كبريطانيا مثلا ـ قد أخذت بالتوازن في علاقاتها التعاقدية؟ (المال)