هل هي كارثة أن تحتل الإمارات المركز27 وقطر29 والبحرين37 وتونس38 في تقرير تكنولوجيا المعلومات العالمي, ثم تأتي مصر في المرتبة76 من التقرير؟ اعتقادي أن مراكز هذه الدول والعديد غيرها ليس فيه كارثة أو يحمل أي علامة قلق بالنسبة لمصر, وإنما القلق الفعلي ينبع من أن الكيان الصهيوني إسرائيل اقتنص المركز25, وأن جنوب إفريقيا تحتل المركز52 والهند المركز54 ورومانيا المركز58 والبرازيل الـ59 وتركيا الـ61 وبولندا الـ59, وذلك لأن الكيان الصهيوني هو الخصم الأول الذي يصارعنا علي الوجود, وباقي الدول المذكورة هي المنافس الأبرز الذي ينازعنا علي مزيد من فرص الاستثمار والتشغيل, أما باقي دول العالم الواردة في التقرير من عرب وعجم فهي خارج البؤرة الأساسية لصراعنا الحضاري وتنافسنا الاقتصادي في تكنولوجيا المعلومات, ولذلك يجب ألا نتخوف كثيرا مما تحققه سواء كانت مصر سابقة عليها أو متخلفة عنها في الترتيب.
للتوضيح والتذكير أشير مجددا إلي ما قلته الأسبوع الماضي من أن أوضاع صناعة تكنولوجيا المعلومات في مصر ـ ومعها مجتمع المعلومات بدرجة أو بأخري ـ قد غادرت منطقة القاع التي تضم دولا تتسم أوضاعها بالركود وبطء الحركة والخمود شبه التام, لكنها لم تصل بعد إلي منطقة القمة الناضجة المستقرة التي تضم مجموعة الدول الأعلي تقدما ورسوخا في التحول إلي مجتمع المعلومات, ووجود مصر في هذه المنطقة يدفعنا إلي تغيير طريقة قراءتنا لهذا التقرير أو غيره من التقارير المشابهة, لأن الأهم لم يعد المرتبة التي تحققها مصر في الترتيب العام وهل تخلفت أم تقدمت, ولكن الأهم الآن أن نتعرف علي نقاط الضعف والقوة بيننا وبين الآخرين الذين ينافسوننا أو يخاصموننا أو يصارعوننا علي المستقبل, فنحن عمليا في خضم منافسة وخصومة تدور رحاها ضمن الصراع الحضاري والوجودي الذي فرض علي مصر أن تخوضه بحكم دورها ومكانتها وقدراتها وتاريخها ومسئولياتها الوطنية والقومية والدينية وهذه الخصومة مع الكيان الصهيوني بالتحديد, ومنافسة تدور رحاها ضمن الصراع الاقتصادي الذي تفرضه متطلبات خطط التنمية وطموحات مصر في تشغيل العمالة وجذب الاستثمار وتعظيم العائدات من وراء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, سواء باعتبارها صناعة قائمة بذاتها أو باعتبارها أداة تساعد في التنمية الشاملة, إضافة لأوضاع سوق تكنولوجيا المعلومات حول العالم, وهذه المنافسة مع مجموعة من الدول تمثل كلا من الهند وتركيا وبولندا ورومانيا والبرازيل والفلبين وأوكرانيا وروسيا محورها الأساسي, لكونها تتسابق علي نفس الفرص التي اخترنا لأنفسنا أن نبحث عنها, وهي جذب استثمارات في صناعة التعهيد والمشاركات طويلة المدي مع الشركات العالمية العاملة في هذا المجال,و انطلاقا من ذلك تناولت أوضاعنا مقارنة بالكيان الصهيوني الأسبوع الماضي, واليوم أشير في عجالة إلي الوضع المقارن مع هذه الدول التي تتنافس معنا علي نفس الفرص.
أقول بداية أن ولا يجب النظر إلي التقرير بمعزل عن الاستراتيجية المعلنة من قبل مصر فيما يتعلق ببناء مجتمع المعلومات عموما وصناعة تكنولوجيا المعلومات بصفة خاصة, وما دمنا نتحدث اليوم عن المنافسة في ساحة الاقتصاد, فإن الأمر يكاد يكون منصبا علي استراتيجية بناء صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المحلية والقائمة بالأساس علي تعظيم العائد من التصدير وفتح فرص لتشغيل العمالة من خلال الاستثمار في خدمات تكنولوجيا المعلومات وبشكل أساسي في صناعة التعهيد.
وإذا ما راجعنا أوضاع مصر في التقرير استنادا إلي هذه الاستراتيجية سنجد أن نطاق منافسيها يوجد بشكل أساسي في مجموعة الثلاثين دولة التي تحتل المراكز من50 إلي80 تقريبا, وهي دول لم تتغير كثيرا في تقرير2009 مقارنة بتقرير2008, فمن بين الثلاثين دولة ظهرت سبع دول فقط في تقرير2009 ولم تكن موجودة في تقرير2008, بينما اختفت ست دول من تقرير2009 علي الرغم من أنها كانت موجودة في تقرير2008, أي أن23 دولة من الثلاثين علي الأقل مستمرة في هذا النطاق التنافسي مع مصر بصورة أو بأخري.
ومن أهم الدول التي يضمها هذا النطاق الهند ورومانيا والبرازيل وبولندا والفلبيين واوكرانيا وروسيا وجنوب إفريقيا واذربيجان وتركيا, وهي مجموعة الدول التي لديها استراتيجيات وخطط طموحة وقوية وواضحة في مجال التعهيد وخدمات تكنولوجيا المعلومات عموما, والبعض منها يقدم نفسه للسوق الدولية بصورة تقترب كثيرا من الصورة التي تقدم بها مصر نفسها, بل ويكاد يتنافس علي نفس الزبائن ونفس رؤوس الأموال الباحثة عن مناطق للاستثمار في التعهيد وغيرها من أنماط صناعة خدمات تكنولوجيا المعلومات, ومن الأمور الجيدة بالنسبة لمصر في هذا المجال أن التقرير خصص جزءا لصناعة التعهيد في مصر باعتبارها علي بداية طريق النجاح ووصف مصر بأنها من أفضل خمس دول جاذبة لخدمات التعهيد.
وبمراجعة قوائم التقرير اتضح أن الدرجات التي حصلت عليها الدول الموجودة في هذا النطاق التنافسي تراوحت عام2008 بين4.05 و3.58 درجة من7, بمتوسط عام3.77, وتراوحت عام2009 بين4.15 و3.58 درجة من7 بمتوسط عام3.85, وهو مستوي لا يختلف كثيرا عن الدرجات التي حققتها مصر, والتي بلغت3.76 درجة في2009, و3.74 في2008, بمتوسط3.75 درجة, ودلالة ذلك أننا نواجه منافسة شديدة, وان الانتقال من أسفل لأعلي داخل القائمة سريع ويتحقق بكسور من الواحد الصحيح, مما يفرض علينا دراسة أوضاع هذه الدول بعمق ومتابعتها أولا بأول, وإن كان ما ينشر من تقارير وبحوث عالمية في هذا الصدد يدفعنا إلي القول بأن الدول الأحري بالدراسة والمتابعة عن كثب هي الصين والهند وتركيا ورومانيا وبولندا والبرازيل وأوكرانيا والاتحاد الروسي وبولندا والفلبين من بين الدول الثلاثين.
والمعروف أن التقرير العالمي لتكنولوجيا المعلومات لا يتوقف عند ترتيب الدول في مراكز تصاعدية من رقم واحد إلي134 مركزا فحسب, بل يعطي لكل دولة درجة تتراوح بين صفر و7, وكلما اقتربت الدرجة من7 كان ذلك دليلا علي حدوث تقدم وتنمية في الوضع الإجمالي لتكنولوجيا المعلومات بالدولة, وكلما كان الارتفاع في الدرجة كبيرا تبوأت الدولة مركزا متقدما في الترتيب العام.
وما يلفت النظر في هذا الصدد أن الدرجة التي حصلت عليها مصر في تقرير2009 كانت أكبر من الدرجة التي حصلت عليها في تقرير2008, ففي عام2008 كانت الدرجة التي حصلت عليها مصر هي3.74 من7, وفي عام2009 حصلت علي3.76 من7, أي حققت مصر تحسنا قدره0.02 درجة, وعلي الرغم من زيادة الدرجة فإن مصر تراجعت في الترتيب العام من المركز63 في تقرير عام2008 إلي المركز76 في تقرير2009 أي خسرت13 مركزا.
هنا قد يتساءل البعض: كيف نحقق تحسنا طفيفا في الدرجة ونتقهقر بقوة في الترتيب العام؟
من يراجع التقرير يكتشف بسهولة أن الأمر يتعلق بطبيعة أداء المنافسين وقدراتهم, فالتقرير يكشف عن وجود نماذج عديدة من أداء المنافسين لمصر, فهناك منافسون حسنوا درجاتهم بمعدل أكبر مما فعلناه نحن وقفزوا لأعلي في الترتيب العام, وهناك منافسون حسنوا درجاتهم بأفضل مما فعلناه نحن وحافظوا علي مراكزهم كما هي, وهناك منافسون خسروا جزءا من درجاتهم لكنهم لم يسقطوا في هاوية التقرير أو يتراجعوا بعشرات المراكز كما حدث لنا وذلك لأن أدائهم من الأصل مرتفع بنسبة كبيرة, والنموذج الأول تمثله دولة مثل رومانيا التي حسنت درجاتها من3.86 درجة في2008 إلي3.97 درجة في2009 محققة فارقا قدره0.11 درجة ضمنت لها التقدم ثلاثة مراكز, من المركز61 عام2008 إلي المركز58 عام2009, والنموذج الثاني تجسده دولة مثل البرازيل التي حسنت درجاتها من3.87 إلي3.94 درجة, محققة فارقا قدره0.7 درجة, بيد أن هذا التقدم لم يضمن لها سوي الاحتفاظ بمركزها كما هو داخل التقرير حيث ظلت في المرتبة59 عامي2009 و2008, والنموذج الثالث يتجسد بوضوح في الهند التي تراجعت درجتها من4.06 درجة عام2008 إلي4.03 عام2009, بفارق0.03 درجة, ومع
ذلك تراجعت أربعة مراكز فقط في الترتيب العام لتحتل المركز54 في2009 بعد أن كانت في المركز50 في2008, ودلالة ذلك أن أداء بعض منافسينا كان أسرع وأكبر وأكثر فاعلية من أدائنا حتي بالنسبة لمن تراجع أداؤهم تراجعا طفيفا عما حققوه من قبل, ومن ثم ليس كافيا أن نبذل جهدا ونحقق نموا أو حتي تنمية هنا أو هناك ثم نكتفي بأن نقدم ذلك علي انه انجاز, بل لابد أن نربط الإنجاز المتحقق بأداء المنافسين وندخله كمعيار من معايير تقييم ما يتم القيام به, بعبارة أخري حينما نقول إننا جذبنا عدة ملايين من الدولارات أو وفرنا بضعة آلاف من فرص العمل, لابد أن نقدم ذلك في سياق يأخذ في اعتباره ما جذبه المنافسون من استثمارات وما حصلوا عليه من فرص عمل أو حققوه من تنمية, حتي يكون الحكم علي ما تحقق صائبا وموضوعيا وفي سياقه الصحيح محليا ودوليا, والنتيجة التي يمكن الخروج بها من هذه النقطة أن أداء مصر خلال2008 حقق إضافة ولا شك, لكنها بمعايير المنافسة أقل مما كان يتعين تحقيقه, وأن الجهد المبذول يتعين أن يزداد ويصل إلي المستوي الذي يجعله ندا للمنافسين, وهو ما يجلعنا نقول مجددا أن الأمر لم يعد مرتبة في التقرير بشكل عام, بل أصبح مقارنة لنقاط الضعف والقوة مع الخصوم والمنافسين