إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}
وردت نصوص ظاهرها نفي العذاب الأخروي عن الأمة، وأن عذابها في الدنيا بما يصيبها من الفتن، والمصائب، والحُمَّى، وغيرها من الابتلاءات، وهذه النصوص تشكل على نصوص أخرى تثبت تطهير بعض المذنبين في النار، وهذا عرض لأقوال العلماء في الجمع بين هذه النصوص.
فقد ورد عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن، والزلازل، والقتل" رواه الحاكم وغيره، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحُمَّى حظ المؤمن من النار". حسن إسناده ابن حجر في فتح الباري. ووردت أحاديث تفيد أن المؤمن يُفدَى يوم القيامة من عذاب النار بيهودي أو نصراني، كما في صحيح مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فكاكُكَ من النار».ومعنى الفداء أنهم يرثون مقاعد الكفار في الجنة، وأن الكفار يرثون مقاعد المسلمين في النار، ولا يعني أن الكفار يحملون أوزار المسلمين، كما قال تعالى: (وَتِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِيٓ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ) [الزخرف: 72] .
ولا شك أن ظاهر هذه الأحاديث مبشرة لعموم المسلمين من هذه الأمة، وأن الله تعالى يقدر عليهم من الابتلاءات، والفتن، والأمراض، حتى لا يعذبوا في الآخرة، ويكون ما أصابهم هو نصيبهم من النار، ولكنها مشكلة على نصوص كثيرة تثبت أن من هذه الأمة من يعذب.
قال المُظْهِري في شرح المصابيح: قوله: "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة" هذا الحديث مشكل؛ لأن مفهومه: أن لا يعذب أحد من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيلزم أن لا يعذب من قتل من المسلمين أعدادا كثيرة، وسرق أموالهم وآذاهم وقذفهم وفعل الكبائر كلها، ومعلوم أن هذا لم يقل به أحد، وقد جاءت أحاديث بتعذيب الزاني والقاتل بغير الحق والقاذف وغيرهم من أصحاب الكبائر".ولذلك أوَّلَ الحديثَ بما يتفق مع تلك النصوص المثبتة لعذاب أهل الكبائر من هذه الأمة، فقال: إن قوله: "أمتي هذه أمة مرحومة"، أراد بهم: من اقتداه - صلى الله عليه وسلم - كما ينبغي، ويحب الله ورسوله، فأما من فعل كبيرة فقد استحق العذاب، ثم أمره إلى الله تعالى؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه".
وبعض العلماء لم يرَ مثل هذه الأحاديث محفوظةً بحيث يُعارَض بها الأحاديث الثابتة في دخول بعض هذه الأمة النار، ومنهم الإمام البخاري حيث قال في التاريخ الأوسط: "والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة أن قوما يعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين".
وبعض العلماء حمل تلك الأحاديث على الغالب والمجموع، فغالب هذه الأمة مرحومة، ولكن من حيث الأفراد والآحاد فقد ثبت أنهم يدخلون النار للتطهير، ذكر ذلك المناوي في فيض القدير، والملا علي قاري في مرقاة المفاتيح.
قال الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير: "واعلم أن هذه الأحاديث وأمثالها في فضل هذه الأمة هي للمجموع من حيث هو، فلا ينافيه خروج أفراد منه، وهذا مثل أحاديث: عصمتها من الضلال، فإنه للمجموع لا للأفراد، وبهذا تجتمع الأحاديث المخوفة والمبشرة".
وبخصوص أحاديث الحمى، وأنها حظ المؤمن من النار، يقول ابن رجب في مجموع الرسائل: "والمعنى -والله أعلم- أن حرارة الحمى في الدُّنْيَا تكفر ذنوب المؤمن، ويطهر بها، حتى يلقى الله بغير ذنب، فيلقاه طاهرًا مطهرًا من الخبث، فيصلح لمجاورته في دار كرامته دار السلام، ولا يحتاج إِلَى تطهير في كير جهنم غدًا؛ حيث لم يكن فيه خبث يحتاج إِلَى تطهير، وهذا في حق المؤمن الَّذِي حقق الإيمان، ولم يكن له ذنوب إلا ما تكفره الحمى وتطهره.. وإذا كانت الحمّى بهذه المثابة، وأنها كفارة للمؤمن وطهارة له من ذنوبه، فهى حظه من النار؛ فإنه لا يحتاج إِلَى الطهارة بالنار يوم القيامة، إلا من لقي الله وهو متلطخ بخبث الذنوب، ولذلك كانت الحمى تشتد عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لعظم درجته عند الله، وكرامته عليه، وإرادته رفعة درجته عنده.روى ابن مسعود قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَمُّ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ؟! وَإِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، إِمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، وَلا أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ، يَمْرَضُ مَرَضًا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَطُّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا» خرَّجه البخاري بمعناه، وهذا لفظ ابن أبي الدُّنْيَا".
المصدر : إسلام ويب