Post: #1
|
|||
ahmeddodo Joined: 07-10-2014 Posts: 2,360 Country: |
تفسير قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]
يقول الله جل ثناؤه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ﴾: ما أسبغ عليهم من عافية ونعمة، فيزيل بذلك عنهم، ويسلط عليهم عقابه، ويصب عليهم سوط عذابه؛ حتى يغيروا ما بأنفسهم من شكر نعمه بإخلاص عبادته وحسن طاعته، والوقوف عند حدوده، والانتفاع بوصاياه ومواعظه، إلى الكفر بأنعمه، وتضييع حقوقه، وتجافي القلوب عن حظيرة قربه وحبه، واستلقائها في خرطوم الشيطان راضية بما ينفث فيها من سموم الشرك والشهوات والفسوق والعصيان، والجرأة على انتهاك حرمات الله، والعدوان على حدوده في غير خجل ولا وجل، وتنكب وصايا الله الحكيمة الرحيمة، ونسيان عظاته والإعراض عن آياته، والخوض في الأموال والأعراض والدماء بالبغي والظلم والفساد، واتخاذ آيات الله هزوًا، ودينه لهوًا ولعبًا، وموت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والمسارعة إلى طاعة الهوى، والاحتيال على تحليل ما حرم الله لإرضاء ذوي الرياسة، وتحريم ما أحل الله بالكذب والقول بالباطل؛ لأنه على غير ما تهوى الأنفس، والتتابع في إشباع الشهوات البهيمية؛ حتى تنحل الأخلاق وتنعكس الفطر، فتنهر الرجولة وتتلاشى بالتخنث، ويتلاشى حياء الأنوثة وخفرها وعِفتها بالتهتك والاستهتار والدعارة والفجور، فإذا غلب ذلك على القوم واستحكم فيهم، أحلهم الله دار البوار، وأذاقهم العذاب الأليم، وبدَّلهم مكان النعمة نقمة، ومكان الرحمة غضبًا وسخطًا، ومكان العز ذلاًّ، ومكان الأمن خوفًا، وجعل كل أمرهم فرطًا، ولقَّاهم في كل حياتهم غيًّا، وجعل عيشهم نكدًا، وسلط عليهم أنواع البلايا والمحن في أنفسهم وأولادهم، وأزواجهم وأموالهم وحكامهم، حتى يدع الحليم فيهم حيرانًا، وما يزال أمرهم كذلك في سفل وشقاء متزايد، ونكد بعد نكد، حتى يدمر الله عليهم، فيكونوا نكالًا لما بين يديهم وما خلفهم وموعظة للمتقين: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 16، 17]، ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [إبراهيم: 28، 29]، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، ﴿ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ [الحج: 44-45]، ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ** حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [المؤمنون: 54-77].
﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [النمل: 50-53]، ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القص: 58-59]، ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15-17]، ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [ابراهيم:7]، ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام:6]، ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأعراف:100]، ﴿ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ﴾ [ابراهيم:45]، ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه:128]، ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم:9]، ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ﴾ [السجدة:26].
تلك آيات الكتاب الحكيم، هدى ورحمة للمحسنين، وشفاء لِما في صدور المؤمنين، ولا تزيد الظالمين إلا خسارًا، تهدي للتي هي أقوم، وتبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعد الله لهم عذابًا أليمًا في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعملون.
يؤكد الله سبحانه فيها أنه يسبق برحمته إلى عباده، فيوالي عليهم فضله، والليل والنهار، ويسبغ عليهم نعمة ظاهرة، و﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 32-34]، فإن هم عرفوا نعمة الله فأنكروها وكفروا بها - مستعينين بها على مساخطه ومحاربته - قلَبها عليهم نقمة وعذابًا، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا ولا تحويلاً، وإن هم عرفوا نعمة الله فقابلوها بالشكر، واستعانوا بها على مرضاته، والإيمان به وطاعته وحسن عبادته، وأعطوها حقها من التقدير والإكبار، منتفعين بكل نعمة فيما جعلها الله له، وأسداها من أجله على الوجه الذي يحبه وارتضاه لعباده، جعلها عليهم رحمة وسعادة، وزادهم من نعمه وفضله، وكانوا بعين الله وفي كنفه، وتحت جناح رحمته ومعونته وحسن توفيقه.
فنعمة الرسول الذي هو أعظم مظاهر رحمة الله وفضله، يقابلونها بالحب الصادق والتوقير والتعزيز، والنصر له ولكل ما جاء به من الهدى والعلم والحكمة، والدين والآداب والأخلاق، والاتباع له، والتحري للاقتداء به؛ حيث كان وكيف كان، واليقين كل اليقين أن لا حق ولا هدى ولا دين، ولا خير ولا فلاح في الدنيا والآخرة، إلا من طريق هذا الرسول، ومن منبع علمه الذي أوحاه الله إليه وهداه إليه وألهمه إياه، لبيان ما أنزل عليه من آيات وأحكام وشرائع، والحرص أشد الحرص على الاستمساك بحبله والاعتصام بسنته، والوقوف عند طريقته، والعض على ذلك بالنواجذ، مهما قل الرفقاء وندر الموافقون، ورؤية الشر والشقاء والخسار الأكبر في الدنيا والآخرة في ضد ذلك مهما كثر المتنكِّبون، وإن كان الناس أجمعون، موقنًا أشد اليقين أن كل ما أحدث الناس من عند أنفسهم، زائدين به على ما هدى الله إليه رسوله، ومصطفاه ومختاره وحبيبه - أن كل ذلك شر في الدين وهلاك في الآخرة، مهما زينوه بزخرف القول، وألبسوه خلع التحسين الكاذب، ولفوه فيم شاؤوا من قول مزوق ولفظ منسق، وأجلبوا وشياطينهم على خلافه بمنكر القول وشنيع الألقاب، وخلعوا على أنصار السنة النبوية ما شاؤوا من قبيح اللمز والنبز، ومختلق التهم والفِرى.
أقول: إن عرف الناس نعمة الله سبحانه في رسوله صلى الله عليه وسلم، وقدروها قدرها، كذلك وشكروا الله عليها حق الشكر بما سبق لك من البيان، وباعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل نصرتها وتأييدها والذب عنها، ووالوا عليها وعادوا عليها، وكانت هي الميزان الذي توزن به العقائد والأقوال والأعمال، والنظم والشؤون والناس، كان الله لهم بالعز والنصر والتأييد والتمكين في الدنيا، وأدال لهم من عدوهم، وورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وكثَّرهم بعد القلة، وقواهم بعد الضعف، وأغناهم بعد الفقر، فكانوا في التعاطف والتناصر كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تألمت له بقية الأعضاء بالسهر والحمى، وربط على قلوبهم بالمحبة والإخاء الصادق، وألقى في قلوب أعدائهم الرعب منهم، فما يستطيعون أن يقفوا لهم، ولا أن يصافوهم؛ لأنهم أشداء على أعدائهم رحماء بينهم، لا يجد العدو منفذًا إلى جماعتهم، ولا يلقى في حصون عزتهم وقوتهم أقل ثغرة يدخل منها؛ لأنها محاطة بسور من العلم والهدى والإيمان، والانتفاع بكل ما أنعم الله في الأنفس والأرض وبحارها وجبالها ومعادنها، والسماء وكواكبها ونجومها، تلك كانت الحال التي انتقل إليها المهاجرون والأنصار ومن سلك نهجهم، وسار على دربهم، حتى غيَّروا ما كان بأنفسهم قبل إشراق شمس الرسالة؛ من الشرك والوثنية، والصم والبكم والعمى، وسوء الجاهلية، فلما أشرقت شمس الرسالة المحمدية على قلوبهم، فاستضاءت بنورها التام، واهتدت إلى الصراط المستقيم بضوئها، غيَّر الله ما كان بهم أولًا من الفرقة والشتات والذلة والصغار، ومكَّن لهم في الأرض وأظهرهم على عدوهم، وأدال لهم من أعظم دول الأرض عددًا وعُددًا، وغنى وعتادًا وعراقة في الملك والسلطان، وإذا أراد الله بقوم خيرًا فلا مرد له، ولن يستطيع أحد أن يمسك ذلك الخير ويمنعه، والله على كل شيء قدير.
وما زال هذا شأن الأمة الإسلامية، حتى خدعت بالدخلاء من اليهود والنصارى والمجوس، ولعبوا دورهم الذي تَم لهم ولشياطينهم به ما أرادوا من تغيير ما بقلوب المسلمين من الإيمان الصادق بالله والرسول والكتاب، وشغلوهم عن ذلك بما شغلوهم من بدع وخرافات وقيل وقال، واختلافات واضطرابات ومنازعات وخصومات، ففشِلوا وذهب ريحهم، وضاع ما كان بأيديهم من عز وسلطان، وأصبحوا لقمًا سائغات يتلقفها الذين كانوا بالأمس يعطونهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وما ظلمهم الله شيئًا، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بما فرَّطوا ويُفرطون في جانب الله، وبما أعرضوا عن كتاب الله ورسول الله، وبما فُتِنوا به من شهوات وشبهات، آل أمرها إلى أن قلبتهم رأسًا على عقب، ونكستهم شر نكسة، يمسون ويصبحون في مساخط الله سرًّا وعلانية، ما تركوا بابًا منها إلا ولجوه، ولا دربًا إلا سلكوه مسارعين، وكم أذعر الله إليهم بالآيات المتلوة والآيات الكونية، فلا يزيدهم ذلك إلى نفورًا، وطالَما وعظهم بما أراهم من العبر في الأمم من بين أيديهم ومن خلفهم فما يتعظون: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف:105]، ﴿ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس:97]، ومن عجب أنهم رأوا وسمعوا ذلك العذاب الأليم، لِمَ لا يزالون بعيدين عن الأوبة إلى الله، ولا يزالون في ضلالهم يعمهون؟! ألم تسمع بالقفص الفضي الذي صنعوه لقبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنفقوا عليه مائة ألف من الجنيهات؟ أرأيت أسفه من هذا وأبعد عن الإنابة والرجعة إلى الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان علي من أشد المسارعين إلى القيام به، وتنفيذه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، لهدم القباب وإزالة القبور العالية، وتسويتها بالأرض، وتقويض ما كان الشيطان بنى من قواعد الوثنية بتلك القباب والقبور والأضرحة؟!
يا لله للمسلمين وللإسلام في هذا العصر الذي يرى الناس فيه نيران الحرب مستعرة تلتهم كل بد وكل قطر في غير شفقة ولا رحمة - نسأل الله العافية - تُنفق تلك الأموال الطائلة في هذا الزور والمنكر والسخف! أهذا يرضي الله ورسوله وعليًّا بطل الإسلام الذي كان يبخل على قوته؛ ليشتري السلاح والكراع والعدة لجهاد في سبيل نصرة الإسلام؟! أقسم لو بعث عليّ رضي الله عنه، بل لو بعث أقل أولاد علي اليوم، لقوَّضوا تلك القباب والأضرحة، وباعوا أنقاضها واشتروا بها طيارات ودبابات ومدافع وغواصات ونحوها؛ ليعدوا لأعداء الإسلام ما استطاعوا من قوة برية وبحرية وجوية، يرهبون بها عدو الله وعدوهم، ولينقذوا الإسلام والمسلمين مما هم فيه من الرهبة والخوف والجزع الذي بلغ حد التلاشي والموت من عدوهم.
أيها المسلمون، غيِّروا ما بأنفسكم من عبادة القبور والموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، إلى إخلاص العبادة للحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، يُغيِّر الله ما بكم من هذه الضيعة والذل والخوف إلى مثل ما كان عليه سلفكم الصالح رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، غيِّروا ما بأنفسكم من الإعراض والجفاء لكتاب الله وسنة رسوله، والحب والرضا لما شرع شياطين الجن والإنس من الأقوال والأحكام والنظم والقوانين، يُغيِّر الله ما بكم من الفقر والحاجة والبؤس، وانحلال الأخلاق والقوى، وتلاشي كل المقومات إلى مثل ما كان عليه سلفكم الصالح رضي الله عنهم من الرجولة والشهامة، وقوة الأخلاق وغنى النفس وعزتها.
أيها المسلمون، غيِّروا ما بأنفسكم من الفسوق والعصيان، واستباحة المحرمات، والعدوان على حدود الله باسم المدنية والحرية، إلى مكارم الأخلاق والاستقامة، والعفاف وصيانة النساء، وحفظهن من هذا التبرج والتهتُّك والاستهتار، يُغيِّر الله ما بكم من الفساد والشقاء والعلل والأمراض التي فكَّكت أجزاء الأمة ومزَّقت شملها، إلى مثل ما كان فيه سلفكم من الصلاح والسعادة والقوة والعدل والإحسان الذي كانوا به قادة الأمم وسادتها.
أيها المسلمون، هذا خير الآونة وأعظم الفرصة للإنابة إلى الله، ومراجعة الإسلام الصحيح، وإصلاح أنفسكم وأبنائكم ونسائكم، فانتهزوا ذلك، فوالله لو ضاعت تلك الفرصة لتكونن خيبة ما مثلها خيبة، وهيهات هيهات، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم! مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (15-16) - شعبان سنة 1361 |
||
|
|||
|
Bookmarks | ||||
|
|