أنواع النصر في القرآن الكريم
د. محمد راتب النابلسي
.................
(1) النصر الاستحقاقي:
وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ولكن هناك نصر استحقاقي، فالمؤمن حينما يكون على ما ينبغي وينتصر فهذا نصر سماه العلماء النصر الاستحقاقي، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [سورة آل عمران، الآية: 123]، كان أصحاب النبي من الافتقار ومن الاستقامة ومن التوحيد ما استحقوا به نصر الله عز وجل.
بالمناسبة، حينما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} [سورة الأنفال، الآية: 10] النصر الاستحقاقي ثمنه الإيمان والإعداد: معنى ذلك أنه من عند الله، ولكن له ثمن، ما ثمن هذا النصر؟
الإيمان والإعداد:
الإيمان: الإيمان الذي يحملك على طاعة الله - والإعداد المتاح فقط. الآية الأولى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم، الآية: 47] كلام خالق الأكوان، وزوال الكون أهون عند الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا} [سورة غافر، الآية: 51] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [سورة النور، الآية: 55].
الشرط الأول للنصر هو من عند الله ولكن له ثمن، والبند الأول في الثمن الإيمان الذي يحمل على طاعة الله، أما الإيمان الذي لا يحمل على طاعة الله فلا قيمة له إطلاقًا.
الإعداد: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [سورة الأنفال، الآية: 60] لكن رحمة الله أنه كلفنا أن نعد العدة المتاحة، وليست المكافئة، وفرق كبير بين أن نعد العدة المكافئة، وهذا مستحيل الآن، وبين أن نعد العدة المتاحة. عندما أؤمن الإيمان الذي يحملني على طاعة الله، وحينما أعد لأعدائي العدة المتاحة عندئذ أكون قد دفعت ثمن النصر، وما لم يدفع ثمن النصر فالنصر مستحيل، وهذه هي الحقيقة المرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح، إذن النصر من عند الله، وله ثمن، والثمن له بندان الأول الإيمان، والثاني الإعداد.
إذا آمنا ولم نعد فلا ننتصر، وإذا أعددنا ولم نؤمن فلا ننتصر، لذلك قالوا: الإيمان والإعداد شرطان كل منهما لازم، لا يحقق الثاني إلا إذا كان الأول، فكل شرط من هذين الشرطين لازم غير كاف، وما لم يتحقق الشرطان معاً فلن يكون النصر.
الإيمان يحملك على الاستقامة حينما نتعامل مع الله وفق قواعده القرآنية، ووفق نواميسه نقطف الثمرة، أما إذا تعاملنا مع الله تعاملا ضبابياً مزاجياً، ولم ندفع الثمن فلن ننتصر، إذًا: النصر من عند الله، وله ثمن، ثمنه الإيمان والإعداد، لكن أي إيمان؟ الكلّ يدعي أنه مؤمن، الإيمان الذي يترجم إلى استقامة، الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، لذلك لماذا لم ينتصر المسلمين في أُحُد؟ لأنهم عصوا، ولو أنهم انتصروا لسقطت طاعة رسول الله. ولماذا لم ينتصر المسلمون في حنين؟ في أُحُد وقعوا في معصية، وفي حنين وقعوا في شرك خفي، فقالوا: "لن نهزم مِن قلة"، إذًا: إما لسبب سلوكي في أُحد، أو لسبب اعتقادي في حنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [سورة التوبة، الآية: 25].
(2) النصر التفضُّلي:
إذاً: النصر الأول هو النصر الاستحقاقي، حينما يدفع ثمن النصر إيماناً بالله يحمل على طاعته، وإعدادا للقوة المتاحة، الآن هناك نصر آخر سماه العلماء النصر التفضلي دليله الآية الكريمة: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة الروم، الآيات: 2-4] في هذه الآية إعجاز، فبعد أن اكتشفت أشعة الليزر أمكن قياس المسافات بدقة متناهية، وأمكن قياس المسافة بين الأرض والقمر بدقة متناهية، وأمكن قياس المنخفضات والأغوار بدقة متناهية، وبعد أن اكتشفت هذه الأشعة تبين أن أخفض نقطة في الأرض غور فلسطين، والروايات التاريخية تؤكد أن هذه المعركة التي جرت بين الروم والفرس كانت في غور فلسطين، فقال الله عز وجل: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة الروم، الآيات: 2-4].
النصر التفضلي: حكمة الله اقتضت أن ينتصر الروم أهل كتاب، وأهل الكتاب مشركون، ومع ذلك انتصروا، هذا النصر ليس استحقاقياً، ولكنه نصر تفضلي، فنحن في عبادتنا نقول: يا رب، إن لم نكن نستحق النصر الاستحقاقي فانصرنا نصراً تفضلياً، والنصر التفضلي يعني أن المنتصر ليس كما ينبغي، لكن حكمة الله اقتضت أن ينتصر، لذلك أثبت الله للصحابة الكرام وهم نخبة البشر فرحهم بهذا النصر. {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة الروم، الآيات: 2-4] هذا هو النصر التفضلي، إذا كانت فئة ليست كما ينبغي، وانتصرت على الكفار وأعداء الله فهذا شيء ينبغي أن نفرح له بنص هذه الآية. هذا هو النصر الثاني النصر التفضلي.
(3) النصر المبدئي:
كان هناك نصر ثالث، ما هو؟ النصر المبدئي: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [سورة البروج، الآيات:4-7] الآن كلام دقيق، أصحاب الأخدود هل انتصروا؟ بالمقياس التقليدي لم ينتصروا، لكنهم انتصروا نصرًا مبدئياً، لأنهم ثبتوا على إيمانهم بالله.
بالمناسبة، مسيلمة الكذاب قبض على صحابيين، وقال للأول: "أتشهد أني رسول الله؟" قال: "ما سمعت شيئًا"، فقتله، وقال للثاني: "أتشهد أني رسول الله؟" قال: "أشهد أنك رسول الله". الآن استمعوا إلى ما قاله النبي الكريم عن هذه الحادثة، قال: «أما الأول فأعز دين الله فأعزه الله»، الذي قتل النبي عليه الصلاة والسلام عدَّه منتصرًا، لأنه صمد على مبدئه، ومن هذا النوع من النصر ماشطةُ بنتِ فرعون، جاؤوا بأولادها الخمسة، لأنها قالت لما وقع المشط من يدها: يا الله، البنت قالت لها: "ألك رب غير أبي؟" قالت: "الله ربي ورب أبيك وربك"، فحدثت أباها، فجاء بقدر من النحاس، وجعل فيه زيتًا مغلياً، وجاء بأولادها الخمسة، وأمسك الأول، وقال: "ألك رب غيري؟" قالت: "الله ربي وربك"، فألقى الأول في الزيت المغلي فظهرت عظامه طافية على سطح الزيت، وأمسك ولدها الثاني، "ألك رب غيري؟" قالت: "الله ربي وربك"، فألقى الثاني، وألقى الثالث، وألقى الرابع، الخامس رضيع، فلما قال لها: "ألك رب غيري؟" سكتت، تضعضعت، ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة، فأنطق الله ولدها الرضيع، قال: "اثبتي يا أمي، فأنت على الحق"، وألقاه في الزيت، ثم ألقاها في الزيت، هذه انتصرت نصرًا مبدئيًا، أي ثبتت. فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج شمّ رائحة لم يشمّ مثلها إطلاقًا، فقال: «يا جبريل، ما هذه الرائحة؟ رائحة طيبة جداً، قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون»، ففي النصر المبدئي يمكن أن لا تنتصر بالمقياس التقليدي، لكنك مُتنا على الإيمان، وهذا نصر مبدئي، وفي هذا المعنى تسلية وتطمين لكل مَن قُتِل وهو على حق. النبي قال: «أما الأول فأعز دين الله فأعزه الله»، القلق على من؟ على الثاني الذي قال: "أشهد أنك رسول الله"، يا الله ما أعظم هذا الدين! أما الثاني فقد قبل رخصة الله، ما كلف الله الإنسان فوق ما يستطيع، فلو أن الماشطة قالت: "أنت ربي"، فلا شيء عليها، ولكن لو أخذ كل المؤمنين بالرخص ما بقي هناك بطولات، فالإمام أحمد بن حنبل لم يقبل بخلق القرآن، فدخل السجن، وعذب. لذلك الأمة في حاجة لمن يدفع ثمن مبدئه غاليًا، ولو أن كل إنسان أخذ بالرخص فلن نجدد في الأرض بطولات إطلاقاً. فهناك نصر مبدئي؛ بأن يموت الإنسان على مبدئه صراحة، ولم يساوم عليه.
اللهم إنا نسألك نصرًا على شهواتنا أولًا وأنفسنا الأمارة بالسوء وارزقنا إيمانًا نستحق عليه النصر بإذنك وتوفيقك يا قوي يا عزيز.