بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد ، فقد سبق أن رددت وثلة من أهل العلم على الغامدي في المسائل المختلطة التي نشرها في الصحف من قبل ، وبينا أنه لا يعدو كونه متطفلا على العلم وأهله ، وأنه أتى بالعجائب والغرائب من شواذ المسائل ليشبه بها على العامة .
ثم إنه عاد للظهور ثانية بعد أن فقد منصبه الذي هيأ له من قبل مساحة في الإعلام لنشر ترهاته وجهالاته .
عاد ليؤكد _في لقاء فضائي _ أخطاءه السابقة ، وزاد عليها ، بأسلوبه الفج المعتاد ، وأخذ يحل ويحرم ويصحح ويضعف ، كما يشاء ، ولم يقتصر على مسألة واحدة ، بل شرق وغرب ، وتنقل من مسألة لأخرى ، كأنه شيخ الإسلام وعلم الأعلام في هذا الزمان !
وقد ذكر في ذلك اللقاء أربع مسائل :
الأولى : أنه لم يندم على فتواه السابقة في الاختلاط ، وزعم أن الله اصطفاه لذلك ( ! ).
والثانية : أنه يرى عدم وجوب صلاة الجماعة في المساجد.
والثالثة : إباحة سماع المعازف.
والرابعة : عدم مشروعية صيام يوم عرفة ، لأنه لا يصح فيه حديث.
ثم ذكر : أن كل من رد عليه من أهل العلم ، ومنهم المفتي ، إنما قصدوا أن يهاجموه لكي يظلوا في الواجهة !
هكذا زعم هذا الدعي للعلم ، الذي لا حظ له منه إلا الثرثرة وتحريف الكلم .
وليت شعري : هل يظن هذا الجاهل أنه _ بتزعمه لتلك الأقوال الفجة _ سينال من مكانة من رد عليه ، من مشاهير العلم والدعوة ؟
ومن تراه الذي ( قفز في الواجهة ) ، وكان من قبل بارحا في غيابة النسيان ، وفي حكم المعدوم والمجهول ، حتى أظهر فتاواه الشاذة ، التي بها عرف الناس أن هاهنا كائنا يدعي العلم : إسمه فلان ؟
وطاولت الأرض السماء سفاهة
وفاخرت الشهب الحصا والجنادل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة
وقال الدجى يا صبح لونك حائل ..
وسأوجز الكلام على تلك المسائل الأربعة ، فأقول وبالله التوفيق :
* * * * *
أولا: حكم الاختلاط
قد سبق أن ذكرنا حكم الاختلاط في بحوث سابقة ، وبينا أن شريعة الإسلام قد سدت كل ذرائع الفتنة والفساد في الأخلاق ، ومنها : الاختلاط بين الرجال والنساء ، وقد تواترت النصوص على منعه بالتصريح تارة ، وبالإيماء تارة أخرى.
وحسبك أن تتأمل في كل ما أورده هذا المخالف من قبل من شبهات ، يزعم أنها تؤيد دعواه ، فإنك ستجدها : إما نصوصا منسوخة ، أو مقيدة ، أو خاصة ، وربما انقلب بعضها دليلا عليه.
ونقول لكل من يدعو إلى الاختلاط في التعليم والعمل : أين وجدتم أن نساء الصحابة كن يختلطن بالرجال لطلب العلم أو الرزق؟
واعدد_ إن شئت _ ألوفا من مجالس العلم في عصر النبوة والخلافة الراشدة ، لن تجد فيها مجلسا واحدا مختلطا، على النحو الذي يتزعمه دعاة الاختلاط اليوم.
ولأجل ذلك طلب النساء أن يخص لهن النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا لأخذ العلم ، بعيدا عن الرجال فخص لهن يوما ، فكن يجتمعن في بيت ، لا في مكان مختلط.
وكن يشهدن الجماعة في المساجد ، غير مختلطات بالرجال ، وبالشروط المشددة عليهن : بتجنب التعطر والتزين ، وخصص لهن باب لدخول المسجد ، وأخرت صفوفهن ، وكن ينقلبن عقب الصلاة فورا إلى بيوتهن، حذرا من الفتنة والاختلاط.
وحتى في البيعة على الإسلام ، قد خصص لهن مكان في بيت ، حتى لا يختلطن بالرجال ، مع أن زمن البيعة يسير ، ولا يتكرر بشكل معتاد.
وأما الاختلاط العابر في الأسواق وفي الأماكن العامة ، للبيع والشراء وطلب الرزق ، وغير ذلك من الأمور المباحة المشتركة ، فلم يمنعه أحد ، وإنما قيد بالشروط المعتبرة ، من المباعدة بالأبدان والأنفاس ، والمجانبة عن أدنى مساس ، ولزوم الحجاب ، وتجنب النساء للبخور والعطور .. الخ .
هذا ، وقد أسرف الغامدي كثيرا ، فلم يقف عند حد إباحة الاختلاط الممنوع، بل أباح أموراً ظاهراً تحريمها: كالملامسة بين الرجال والنساء ، والتصاق الأبدان ، والخلوة ، وكلها من المحرمات المعلومة ، التي لا يستريب عاقل في حرمتها.
* وأما قوله هنا "إنه لم يندم على فتواه السابقة في الاختلاط" ، فإنه لا يعد من المناقب حتى يتبجح به ، بل هو من المثالب والمعايب التي تزري بالمرء ، لأن الندم أول أبواب التوبة.
وأما زعمه "أن الله اصطفاه لذلك"، فإنه يعد من المزالق ، ومن الجرأة على الله ، والتألي عليه ، فإن الاصطفاء يتضمن القبول والرضا ، فما الذي أدراه أن الله سبحانه قد رضي منه تلك الفتاوى الشاذة ؟
{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
* * * * *
ثانيا: صلاة الجماعة
وأما المسألة الثانية ، وهي حكم صلاة الجماعة ، فإن النصوص قد تواترت على فرضها على أعيان الرجال ، لمن سمع النداء ولم يكن من أهل الأعذار.
وقد طعن هذا المخالف في صحة بعضها وفي دلالة الأخرى من غير برهان.
وحسبنا من تلك النصوص حديث أبي هريرة المتفق عليه (لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم..) الحديث .
وقد بوب له البخاري بـ " وجوب صلاة الجماعة " ، وذكر أثر الحسن البصري (إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقة لم يطعها) .
وقد عضد هذا الحديث أحاديث أخرى ، كحديث الأعمى عند مسلم (أتسمع النداء ؟ قال نعم . قال : فأجب).
وقد جاء في تفسير قوله تعالى {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} عن ابن عباس وسعيد بن جبير: أنها فيمن يسمع الأذان ولا يجيب.
ووردت آثار عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى أن من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له.
ذكرها ابن المنذر وخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه [ 1 / 345 ].
وروى مسلم أثر ابن مسعود (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
وقد احتج بهذه النصوص أئمة الحديث وفقهاء السلف والخلف على فرض الجماعة في المساجد على الرجال.
قال ابن رجب " وقد اعترض المخالفون في وجوب الجماعة على هذا الاستدلال ، وأجابوا عنه بوجوه :
منها : حمل هذا الوعيد على الجمعة خاصة ..
ومنها : أنه أراد تحريق بيوت المنافقين لنفاقهم ..
ومنها : أنه لم يفعل التحريق ، وإنما توعد به ..
والجواب : أنه لا يصح حمل الحديث على شيئ من ذلك .
أما حمله على الجمعة وحدها فغير صحيح ، وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شهود العشاء في تمام الحديث ما يدل على أن صلاة العشاء الموبخ على ترك شهودها ، هي المراد ، وقد جاء التصريح بالتحريق على من تخلف عن صلاة العشاء .."
ثم ذكر ابن رجب أحاديث في ذلك ، وذكر أن ورود الجمعة في حديث آخر ، لا يطعن في دلالة الحديث على باقي الصلوات.
ثم قال " وأما دعوى أن التحريق كان للنفاق ، فهو غير صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بالتعليل بالتخلف عن الجماعة ، ولكنه جعل ذلك من خصال النفاق ، وكل ما كان علما على النفاق فهو محرم ..".
ثم ذكر الجواب عن عدم تحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة ، بأن سببه من في البيوت من النساء والذرية فإنهم غير ملزمين بشهود الجماعة ، وقد نص على هذا السبب في بعض روايات الحديث .. " . انتهى .
انظر فتح الباري لابن رجب [ 5 / 454 _ _ ] .
قال سمير : وليس الغرض هنا سرد المذاهب في حكم صلاة الجماعة ، فإنها مبسوطة في مظانها من الكتب. والذي يعنينا هنا هو : لماذا يحرص مثل هذا الجاهل المختلط على إظهار رأيه المخالف للفتوى المشهورة ؟
ومن الذي نصبه للإفتاء ، وهو ليس أهلا لذاك ؟
وقال الطانزون له فقيه
فقطب حاجبيه بها وتاها
وأطرق للمسائل أي بأني
ولا يدري لعمرك ما طحاها
* * * * *
ثالثا: حكم الموسيقى
وهذه مسألة قد أشبعت بحثا على مر العصور ، وصرح أكثر أهل العلم بتحريم المعازف ، إلا ما استثني منها وهي الدفوف.
وقد وجد من خالفهم وأباحها مطلقا ، وهم قلة ، فرد عليهم الأئمة فشفوا وكفوا .
وقد ذكرت في بحث لي سابق في حكم الغناء ، أن عمدة هؤلاء المعاصرين قول ابن حزم ، فإنه ضعف حديث البخاري المشهور ، وضعف كذلك سائر الأحاديث والآثار في تحريم المعازف ، بل إنه حكم عليها كلها بالوضع .
وحديث البخاري المشهور في تحريم المعازف هو (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ..) الحديث .
وقد ضعفه ابن حزم بعلة الانقطاع ، فرد عليه الحفاظ وصححوه ، وذكروا له طرقا أخرى موصولة عند ابن حبان والإسماعيلي وأبي نعيم والطبراني ، وله شاهد أيضا عند البيهقي .
وأطال ابن حجر في "الفتح" ، وابن القيم في "إغاثة اللهفان" ، الكلام عليه ، والانتصار له ، والرد على تضعيف ابن حزم له .
وثمة أحاديث وآثار كثيرة عن السلف تؤيد هذا الحديث .
وتعجب من هذا المتطفل على العلم في زعمه أن حديث البخاري فيه اثنتا عشرة علة !!
هكذا زعم ، مع أن غاية ما أورده ابن حزم علة واحدة ، وهي الانقطاع ، وهي التي ذكرها في المحلى [ 9 / 59 ] .
وقد ذكر الحافظ في الفتح أن ابن حزم أعل الحديث أيضا بالاختلاف في اسم الصحابي : هل هو أبو عامر أم هو أبو مالك . [الفتح 10 / 54] .
والحاصل : أن المخالف قد زادها عللا أخرى ، ولم يفصح لنا _ فضيلته _ عن تلك العلل ، ولسنا بحاجة إلى أن يذكرها ، فإنه لا يزيدنا كلامه هذا إلا قناعة بأنه موغل في الحماقة والجهل المركب ، وأنه لولا كثرة العلل في نفسه وفي عقله ، لما صدر منه كل ذلك الخلط والتخبيط.
قال حمار الحكــيم توما
لو أنصف الدهر كنت أركب
لأنني جــاهــل بسيط
وصاحبي جاهــل مركب
* * * * *
رابعا : صيام يوم عرفة
زعم "الجهول " أن صيام يوم عرفة مطلقا ، لا يشرع ، وضعف الحديث الوارد في فضله ، الذي رواه مسلم من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) . [ ح 1162 ].
وهذا الحديث يكفيه صحة إخراج الإمام مسلم له في صحيحه ، الذي تلقته الأمة بالقبول من قبل أن يولد "المختلط " بقرون (!!) .
وقد صححه وارتضاه الأئمة ، واحتج به الحفاظ والفقهاء على استحباب صيام عرفة بغير عرفة ، واشتهر العمل به بين المسلمين من زمن الصحابة إلى يومنا هذا.
وإنما اختلفوا في صيام يوم عرفة بعرفة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في حجته يوم عرفة ، ولورود أحاديث في النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ، ولسنا بصدد الحديث عن ذلك ، وإنما الذي يعنينا هنا الرد على دعواه في عدم مشروعية صيامه بغير عرفة ، وتضعيفه للحديث الذي رواه مسلم.
والحديث قد أخرجه الترمذي [ 749 ] وحسنه ، وقال: "وقد استحب أهل العلم صيام يوم عرفة إلا بعرفة".
وصححه ابن القيم في زاد المعاد [ 2 / 73 ] .
قلت : وقد أعل هذا المتعالم الحديث بعلتين :
الأولى : في إسناده ، حيث ذكر أنه منقطع ، لأن راويه عبدالله بن معبد الزماني لا يعرف له سماع من أبي قتادة ، كما قال الإمام البخاري .
الثانية : علة في متنه ، لأن فيه ثوابا عظيما يزيد على ثواب صيام رمضان ، وهو تكفير السنة القابلة.
قال سمير : أما علة الإسناد ، فحسبك تصحيح الإمام مسلم والحفاظ له ، مع جريان العمل به منذ قرون ، دون إنكار.
وقد ترجم لعبدالله الزماني ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وذكر أنه يروي عن عمر وأبي قتادة وأبي هريرة ، وأن أبا زرعة قال : لم يدرك عمر . [ 5 / 173 ] .
قال سمير : فالقول بعدم سماعه من أبي قتادة لم يتفق عليه ، وإلا لذكره أبو حاتم وأبو زرعة ، ومن ثم صحح له الأئمة _ عدا البخاري _ روايته عن أبي قتادة .
وليس حكم البخاري في الراوي ، أو في الحديث مقدما على قول غيره مطلقا ، كما لا يخفى على صغار طلبة العلم.
وحسبك أيضا تحسين الإمام الترمذي له ، وهو تلميذ البخاري ، فكأنه لم يأخذ بقوله في الانقطاع.
هذا من حيث صحة الإسناد ، وأما من حيث العمل به ، فقد حكى الترمذي الاستحباب عن أهل العلم ولم يستثن أحدا ، فلو كان ثمة خلاف في استحباب صيام هذا اليوم لغير أهل عرفة ، لذكره الترمذي ، كما هي عادته في كتابه.
ويدل عليه أنه بوب بعد هذا الحديث بقوله " باب كراهية صوم يوم عرفة بعرفة " .
وذكر حديث إفطار النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة.
ثم قال الترمذي "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء ، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة".
ثم روى بإسناده عن ابن عمر أنه سئل عن صوم يوم عرفة بعرفة ، فذكر أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، ولم يصوموه ، ثم قال ابن عمر (ولا آمر به ولا أنهى عنه).
قال سمير : فإذا كان هذا مذهب ابن عمر في الصيام بعرفة ، أنه لا ينهى عنه ، مع قوله إنه ليس بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ، فكيف بالصيام بغير عرفة مع ورود الثواب العظيم عليه ؟
وقد بوب البخاري بقوله " باب صوم يوم عرفة " ، ثم أسند حديث أم الفضل (أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : هو صائم ، وقال بعضهم : ليس بصائم ، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه).
قال ابن حجر [ قوله " باب صوم يوم عرفة " ، أي : ما حكمه ؟ وكأنه لم تثبت الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه ، وأصحها حديث أبي قتادة : أنه يكفر سنة آتية وسنة ماضية . أخرجه مسلم وغيره .. ]
ثم ذكر الحافظ أن قولها في الحديث : إن ناسا تماروا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم .. أن هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفا عندهم معتادا لهم في الحضر . [ انظر الفتح 4 / 237 ] .
قال سمير : ووردت متابعة لرواية مسلم ، عند ابن أبي شيبة في المصنف [ 3 / 96 ] من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي الخليل عن أبي قتادة.
ورواه البيهقي [ 4 / 283 ] بإسناد آخر موصول من طرق عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة.
وله شواهد أيضا : فقد رواه ابن أبي شيبة من حديث سهل بن سعد .
وعزاه الهيثمي إلى أبي يعلى والطبراني ، وقال " ورجال أبي يعلى رجال الصحيح " .
وذكر الهيثمي شواهد أخرى مرفوعة وحسن بعضها ، من حديث : عائشة ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وزيد بن أرقم. انظر مجمع الزوائد [ 3 / 192 ] .
و ذكر ابن المنذر عن ابن الزبير وعثمان بن أبي العاص وعائشة رضي الله عنهم ، استحباب صيام يوم عرفة بعرفة. انظر مصنف ابن أبي شيبة والمجموع للنووي [ 6 / 380 ] .
قلت : فإذا وجد من الصحابة من صامه بعرفة ، فكيف يمنع من صيامه بغير عرفة ؟
والحاصل : أننا لم نكن بحاجة إلى كل هذا التطويل في إثبات صحة حديث أبي قتادة ، ولا ذكر الشواهد له ، فيكفيه تصحيح مسلم له ، وموافقة أئمة الحديث من السلف والخلف له .
ويكفيه جريان العمل به من زمن الصحابة حتى يومنا هذا .
ويشهد لهذا أيضا حديث أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة.
انظر جامع الأصول [ 6 / 320 ] .
وهذا الحديث وإن عارضه حديث عائشة عند مسلم [ 1176 ] حيث قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط).
إلا أن الأئمة قد جمعوا بين الحديثين ، فذكر النووي في شرح مسلم أن عائشة حكت أنها ما رأته صامها ، ولا دلالة فيه على عدم صيامه لها ، لورود الحديث الآخر المثبت .
وذكر النووي أيضا أن العلماء قد استحبوا صوم الأيام التسعة استحبابا شديدا ، لا سيما التاسع ، وهو عرفة.
وقال البيهقي في الجمع بين الحديثين : إن المثبت مقدم على النافي ، إضافة إلى حديث ابن عباس : في الترغيب في العمل الصالح في عشر ذي الحجة .
* وأما عن العلة الأخرى التي أعل بها المخالف حديث أبي قتادة ، وهي في قدر ثواب صيام يوم عرفة ، فهذا من أمارات جهله وضعف عقله ، فإنه لم يعله أحد ، ممن يعتد به من أهل العلم والفضل ، بهذه العلة ، لأن ثواب الأعمال الصالحة لا مجال فيها للرأي ولا للقياس ، وكذلك جزاء السيئات والحدود والكفارات ، وهذا أمر لا ينبغي الخلاف فيه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الوعد بالثواب العظيم على أعمال يسيرة ، ولم يجترئ أحد من أهل العلم على ردها بمثل هذه العلة الباردة .
فقد صح في فضل الذكر حديث : أنه أفضل الأعمال وأزكاها ، وخير من الصدقة والجهاد .. ، ولم يعله أحد ، ولا فهم منه أن نوافل الأذكار مقدمة على فريضة الزكاة والجهاد.
وصح في ثواب من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة : أنها تحط خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.
وفيمن توضأ وأحسن الوضوء وتشهد بعده ، فتحت له أبواب الجنة الثمانية.
ولم يضعفه أحد بحجة عدم ورود مثل ذلك الثواب في الفرائض.
ثم نقول : إن ورود الثواب بغفران الذنوب في السنة القابلة لمن صام عرفة ، لا يقتضي تفضيله على صيام رمضان ، لأن ثواب الفرائض لا يعدله ثواب النوافل ولو كثرت ، وهذا يعم كل الفرائض ، وإنما جعلت النوافل تكميلا لها ، وجبرا للنقص فيها ، كما دلت عليه النصوص.
* ثم إن ثواب صوم رمضان ليس مقتصرا على ما ورد (أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه) ، بل صح في ثوابه أحاديث كثيرة مشهورة ، فلا وجه للموازنة بين ثواب صيامه وصيام عرفة ، أو غيره من النوافل .
* * * * *
" خاتمة "
ثم نقول لمثل هذا الثرثار المهذار :
ما هي الثمرة المرجوة من الدعوة إلى الاختلاط في التعليم والوظائف ؟
وما هو النفع الذي ستجنيه الأمة من التهوين من شأن صلاة الجماعة ، وصيام عرفة ، ومن إشهار القول بجواز سماع المعازف ؟
وهل ثمة ضرر على الناس في دينهم ودنياهم ، لو بقوا مستمسكين بالفتاوى المشهورة في تلك المسائل ، خاصة وأنها هي الموافقة للنصوص ، ولما عليه سلف الأمة وخيارها من الصحابة والتابعين ، وهي أحوط في الدين ، وأضبط لمصالح المسلمين ؟
* وإنك لتعجب حين ترى أمثال هؤلاء المتحاذقين ، يتخبطون في تنقلاتهم في الآراء والمذاهب ، فلا يحسنون اختيار الأوفق والأمثل ، بل يأخذون الشاذ من كل مذهب وقول.
يدل عليه :
* أن العلماء السابقين كافة قد حذروا من فتنة الاختلاط ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، فيأتي الجاهل بذلك الرأي الشاذ في إباحة الاختلاط ، وما هو أشد منه ، زعما منه أنه يتبع الدليل فقط ، وأنه لا يعبأ بأقوال أحد كائنا من كان !!
هكذا زعم ، لكنه لم يثبت على ذلك المذهب ، بل اعترض على كل النصوص الواردة في المسائل الأخرى ، في صلاة الجماعة وصيام عرفة والمعازف ، وأخذ يحرفها ، ويضعفها ، ويرد دلالتها بالرأي ، مستندا في ذلك إلى أقوال بعض العلماء ، فكيف صارت أقوالهم في هذه معتبرة ، وفي تلك مستنكرة ؟!
* وفي شأن إباحة المعازف أخذ بقول ابن حزم _ وحده _ وضعف حديث البخاري ، وسائر الأحاديث التي تشهد له ، مع اتفاق الأئمة على تصحيحه.
لكنه في المقابل : لم يعتد بقول ابن حزم في حكم صلاة الجماعة ، فإن ابن حزم قد شدد في ذلك ، فأبطل صلاة المنفرد الذي يسمع النداء وليس له عذر ، وشنع على من تأول الأحاديث الصحيحة في وجوب الجماعة . [ المحلى 4 / 188 _ _ ] .
* وفي مسألة صيام يوم عرفة ، لم يأخذ بقول الصحابة ولا الأئمة ، ولا بقول ابن حزم ( وقد استحبها للحاج ولغيره ) واستدل عليه بحديث أبي قتادة ، ورد على من ضعفه ، فقال " وأما سماع عبدالله بن معبد من أبي قتادة ، فعبدالله ثقة ، والثقات مقبولون ، لا يحل رد رواياتهم بالظنون " .
ثم ذكر ابن حزم أيضا استحباب صيام عشر ذي الحجة _ سوى يوم النحر _ واستدل بحديث فضل العمل الصالح فيها . [ المحلى 7 / 17 _ _ ] .
فلماذا لم يعتبر بقول ابن حزم في هذه المسألة ، وقلده في المعازف ؟
* وفي حديث أبي قتادة أيضا ، أخذ بقول البخاري في سماع الزماني من أبي قتادة ، وضعف به الحديث .
فلم لم يأخذ بقول البخاري أيضا في حديث المعازف ؟
ولم لم يأخذ بقول البخاري في حكم صلاة الجماعة ، حيث قال " باب وجوب صلاة الجماعة " ؟
لماذا قبل رأي البخاري تارة ، ورده تارات ؟
والحاصل : أن من تتبع خلط هذا المتعالم وأضرابه من المتعالمين ، ممن نصبوا ألوية الخلاف ، سيجد من ذلك التناقض الشيئ الكثير.
والله يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم .