الأسبوع الماضي عالجنا بالنقد والتحليل إشكالية الفنون الشعبية بفتح هذا الملف بكل أبعاده وصوره وبحثنا أسباب تدني مستوي هذا الفن وأهمية تدخل الدولة لانقاذه من براثن الاحتضار والموت.
وهذا الأسبوع نتواصل مع فتح الملف ولكن في واحد من أهم روافد الفنون الشعبية وهو قضية "المسرح الشعبي" وكيف وصل هذا المسرح إلي غرفة الانعاش استعدادا لكتابة شهادة وفاته إلي الأبد... ربما هناك بعض المحاولات لكنها محاولات فردية بحتة يتحمل تبعاتها مخرج أو اثنان علي الأكثر.
وإذا كان المسرح الرسمي الحكومي الاحترافي قد تخلي عن هذا النوع من المسرح فقد تخلي عنه تماما وهو المنوط به وهو مسرح الثقافة الجماهيرية سواء علي رحابة ومساحة الأقاليم في كل ربوع مصر حضرها وريفها البحري والقبلي وحتي الفرقة الرسمية التي ماتت بالسكتتين القلبية والدماغية. فرقة السامر المسرحية المعنية في المقام الأول بقضية التراث والمسرح الشعبي وبعد ان هدم المسرح منذ ما يقرب من الأربعة عشر عاما اللهم أيضا بعض التجارب القليلة جدا المتناثرة هنا وهناك وقضية مسرح السامر سنتعرض لها في سياق المقال.
باتت "قضية المسرح الشعبي" شائكة وصعبة وكأننا نخوض في الأغوار والجبال العالية والصخور والأحراش والصحراء الموحشة ويساورني شك. قد يصل لرحم الحقيقة في ان الدولة تناصب هذا المسرح العداء والكراهية الشديدة وترسخ هذا الاحساس عندما أجهزت وزارة الثقافة علي "ملتقي المسرح العربي" رغم نجاح دورته الأولي. ولم أدرك اسباب هذه الكراهية المتأصلة ولا اسباب اغلاق أو الغاء هذا الملتقي بهذه الصورة غير المبررة. كان هذا الملتقي يسعي للاهتمام بقضية التراث والمسرح الشعبي كقضية مصيرية تؤكد أهمية الحفاظ علي الهوية المصرية والعربية مع بداية بزوغ الملامح الأولي للعولمة والكونية. وكانت اشكالية الهوية والحفاظ عليها شيء هام لإمكانية مواجهة خطر العولمة وهي في نبتها الأول وفي هذه الفترة زمن "الملتقي والالغاء" تعالت صيحات الخطر الذي مهد للعولمة وهو "الشرق أوسطية" الأمر الذي كان معه القرار المفجع بإلغاء الملتقي بغير رجعة من أجل هذه الشرق أوسطية.
وحال هذا تبدلت الأحوال وهنا نطرح السؤال لماذا المسرح الشعبي الآن؟!! المسرح الشعبي هو ضمير الأمة. هو المسرح النظيف. الذي يتعامل مع القيم الجمالية والفكرية. هو المعني في المقام الأول علي الحفاظ علي الهوية والحفاظ علي الموروثات. والقيم والعادات والتقاليد شأنه شأن الفنون الشعبية في كل صورها فمنذ أن غابت الفنون الشعبية غابت القيم والقيمة فكان المسرح العاري والفاضح ومسرح الجنس وطرح قضايا تافهة تحرض علي الرذيلة بقدر التحريض والرهان علي تدني المجتمع في براثن التفاهة والحث علي السطحية وممارسة كل ألوان الفحش. علي عكس المسرح الشعبي الذي يعالج موضوعات كبري آنية معنية بقضايا المجتمع المعاش ولكن في ثوب التراث كحكاية وأغنية ورقص وموسيقي حية.
والمسرح الشعبي محبب وجاذب للجمهور لأنه يحتوي علي كل عناصر الفرجة الشعبية النظيفة. والمسرح في مصر بدأ شعبياً في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي من خلال الفرق الجوالة وفرق الأراجوز وخيال الظل. وبدأ قبل هذا في فترة الخلافة العباسية التي عرفت الأشكال المسرحية الشعبية وكان الممثل يعرف بفنان "المخايلة" ثم اخذ اسماء عدة مثل "الحكاء" و"السمّاجين" بتشديد الميم: أي جماعة الممثلين وهم جماعة من الممثلين الهزليين في زمن الخليفة المتوكل. ثم أطلق عليهم لقب الشحاذون. ومن مصر امتد خيال الظل إلي معظم الدول العربية. ثم انتشر الأراجوز أرجاء القاهرة. ثم ظهر نوع أقرب إلي المسرح وهو "فن المحبظين" والمحبظ هو الممثل وكان يقدمون حفلات الزواج والختان في بيوت العظماء من خلال النكات والحركات الخارجة وكان الممثل آنذاك يلعب دور النساء وكانوا يلبسون أشكال الحيوانات بأنواعها وتطورت المسرحية الشعبية تطورا كبيرا. وكانت أول مسرحية شعبية كما يقول الدكتور علي الراعي في حفل اقيم في شبرا عام 1815 عن الحج. وكانت الكوميديا المرتجلة هي الغالبة علي مثل هذه العروض ومنها مسرحية "الفلاح عوض" وكانت النموذج الأول المكتمل للمسرح الشعبي وقدمها المحبظون امام محمد علي.. تأكد المسرح الشعبي تباعاً وكان يقدم في صور متعددة من "خيال الظل والأراجوز والمحبظون والحواة والمشعوذون والبهلوانات" وكافة هذه الأشكال الشعبية وكانت تتضمن الرقص والغناء والرقصات الأقليمية والأناشيد ورقص الطوائف الدينية فكان مسرح السفهاء ومسرح الصناع وأصحاب المهن والمسرح الخاص بالنساء.
مع هذه الإرهاصات بدأ المسرح في مصر يرسخ ويكون له وجود حقيقي مع بدايات مارون النقاشي وأحمد أبوخليل القباني ويعقوب صنوع وأنطون فرح ومحمد تيمور وإبراهيم رمزي والشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وعزيز عيد وعلي أحمد باكثير وتوفيق الحكيم وجورج أبيض وعلي الكسار ونجيب الريحاني وبديع خيري والأبياري الكبير إلي أن قامت الثورة وكانت هناك الإرهاصة الحقيقية للمسرح الشعبي الذي بدأها الحكيم بمسرحية "ياطالع الشجرة" إلي أن جاءت الحقبة الزمنية الحاسمة زمن الستينيات من القرن الماضي لنشهد زحما مسرحيا وعددا كبيرا من المؤلفين والمخرجين مثل: لطفي الخولي وميخائيل رومان وألفريد فرج وسعد وهبة وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف ادريس وصلاح عبدالصبور ومحمود دياب ود. رشاد رشدي وشوقي عبدالحكيم وعلي سالم وغيرهم وتنوعت المسرحية بين الاجتماعية والشعبية وكانت الغلبة للشعبية مثل مسرح شوقي عبدالحكيم وألفريد فرج وادريس ونجيب سرور ومع الإظلام التدريجي علي حقبة الستينيات ومع بداية فترة السبعينيات بدأ المرض يدب أو ينتشر في الجسد المسرحي وطغت العروض الخاصة علي المسرح في مصر وتخليت الدولة عن المسرح الشعبي والمسرح الجاد مع بعض التجارب الفردية التي تحاول انقاذ ما يمكن انقاذه. لكن مسرح الدولة ذهب ليقلد ويحاكي المسرح الخاص. ومع وجود المسرح التجريبي لسنوات طويلة ودورتين للمهرجان القومي والمهرجانات المسرحية الصغري للجمعيات الأهلية والجامعية مازال المسرح المصري يعاني من أزماته ولسنا الآن في مجال بحث هذا التدني.
نعود للمسرح الشعبي وفي هذه المرحلة الفارقة في تاريخ مصر والأمة العربية المنوط به حماية الذوق العام والحفاظ علي الهوية والجذور. الحفاظ علي التراث وحضارة الأمة والمنوط به أيضا مواجهة العولمة التي قضت علي الأخضر واليابس من مقدسات وجذور وثروات طبيعية وغير طبيعية وعلينا ان نعود للريبورتوار سواء ريبورتوار الثنائي الكبير يسري الجندي وعبدالرحمن الشافعي وتراث زكريا الحجاوي ومعهم أبوالعلا السلاموني وغيرهم من أبناء جيلهم ومن جاء بعدهم.. نحن نري أن قضية المسرح الشعبي في حاجة إلي رعاية الدولة. بالإسراع في بناء السامر وانشاء فرقة للمسرح الشعبي بدلا من فرقة الرقص الممسوخة في بيت الفنون الشعبية وأخري بالبيت الفني للمسرح.. قضية المسرح الشعبي قضية مصيرية والله أعلم "!!"
زوايا المنظور:
* * "بيلمعوه".. اللهم اجعله خيراً!!
* * احذروا مسرحيات الاسكتشات!!
* * كل التقدير لأشرف زكي علي هذا الزخم المسرحي!!
* * ما بين الظلام والنور مساحة للفاشل!!
* * هل يتدخل الوزير لإنقاذ البالون؟!!