بقلم مصطفى الفقى
لم تتمتع امرأة فى تاريخ العائلات الملكية مثل ما تمتعت به «ديانا سبنسر» من شعبية وتعاطف، حتى استحقت بامتياز لقب «أميرة القلوب»، وتبدو حياتها أمامى أشبه ما تكون المأساة الإنسانية منذ النشأة حتى الرحيل، فقد عاشت حزينة تعيسة لم تسعدها الأضواء ولم تأخذ بيدها عبارات الإطراء، ولقد كان أول لقاء لى بتلك الأميرة الساحرة عندما جاء جلوسى إلى جانبها فى حفل عشاء خيرى بالمتحف البريطانى.
حيث تبادلت معها الحديث على امتداد ساعتين شعرت خلالهما بحجم المعاناة التى تعيش فيها تلك المرأة الوحيدة، وأذكر أن عدداً من المراسلين والصحفيين كانوا فى استقبالها وتوديعها، ولقد أبدت الأميرة «ديانا» يومها انبهارها بالآثار الفرعونية وذكريات زيارتها الأولى لمصر مع زوجها الأمير «تشارلز» وبدت أمامى فى غاية التواضع وهى تتحدث فى أمور ثقافية وقضايا إنسانية على نحو ينم عن إحساس عميق بمعنى التحضر وقيمة الرقى.
ثم كانت المناسبة الأخرى التى التقيت فيها الأميرة «ديانا» عندما جاءت وحدها إلى مصر فى زيارة ثانية، حيث أتاحت لى ظروف عملى السابق أن أجلس معها بعض الوقت فى صالون الانتظار بقصر «عابدين»، قبل أن تمثل أمام رئيس الدولة المصرية، ويومها بدت لى أم الأميرين «ويليام» و«هارى» حزينة شاردة، فقد كانت مشاكلها مع الأمير «تشارلز» قد بدأت فى التزايد.
وبدأت تلوح فى الأفق احتمالات الانفصال، وظللت أتابع مسيرة الأميرة «ديانا» ونظرة الحزن التى تطل من عينيها لكى تؤكد أن السعادة ليست هى القصور الفخمة ولا الحياة الناعمة ولا الألقاب اللامعة، إنما هى شىء آخر ينبع من الذات ولا تحققها الثروة ولا السلطة ولا العرش المنتظر.
وذات مساء كنت أجلس أمام جهاز التليفزيون فى العاصمة النمساوية لأشاهد الأميرة «ديانا» فى برنامج حوارى مع مذيع بريطانى من أصل باكستانى، وهو يتحدث معها عن غرامياتها ويحاول أن يجد لها عذراً بقوله «ربما كانت تلك النزوات هى قصص حب عابرة» ولكن الأميرة تقاطعه قائلة «بل كانت أكبر من ذلك بكثير» فى اعتراف علنى مباشر بالخيانة الزوجية وكأنها توجه رسالة موجعة لزوجها الغارق حتى أذنيه فى قصة حب مزمنة.
بدأت معه منذ صدر شبابه حيث ظلت السيدة «كاميلا» هى حبه الأول والأخير التى هجر من أجلها عروسه الجميلة «ديانا» قبل نهاية الأسبوع الأول من زواجهما، ليلقى بنفسه فى أحضان المرأة التى عشقها منذ كان صغير السن، وظل متلهفاً عليها مع تقادم العمر، وعندما رأيتها معه عند افتتاح الجامعة البريطانية فى مصر ـ وكنت رئيسها ـ آمنت أن الكيمياء البشرية شىء لا يعترف بالجمال أو الشباب أو الجاذبية، ولكنها شىء آخر لا يعرفه إلا من يعيش فيه، وها هو الأمير يستمتع بحياته مع الزوجة التى اختارها قلبه وليس مع الأميرة التى وضعتها التقاليد الملكية أمامه، وما زلت أذكر جيداً يوم رحيل الأميرة «ديانا» عن عالمنا فى نهاية شهر أغسطس ١٩٩٧.
وتلك الليلة الحزينة التى تابعنا فيها أخبار ذلك الحادث المأساوى فى أحد أنفاق «باريس» وهو حادث غامض تحيط به عشرات الأسئلة وتغلفه رائحة المؤامرة، وكلما التقيت صديقى السيد «محمد الفايد فى زيارات متكررة إلى «لندن» شعرت بأن السنوات لم تبعده عن حادث رحيل ولده، وأدركت أن مأساة فقدانه سوف تظل مع الأب المكلوم طوال سنوات عمره.
ولقد حارب الرجل معركة طويلة من أجل استجلاء الحقيقة والبحث فى دهاليز المؤامرة، ولكن القضاء لم ينصفه فى النهاية وجرى قيد الحادثة الفاجعة قضاء وقدراً! ومازلت أتأمل أهمية الاختلاف الثقافى فى تناولنا للمواقف وفهمنا للقضايا.
فالأميرة البريطانية التى اعترفت بالخيانة الزوجية ماتت «قديسة» فى نظر عشرات الملايين، ومازالت قلوب البشر تخفق بحبها بعد سنوات من رحيلها، حتى إن خبر موتها قد غطى وقتها على وفاة الأم «تيريزا» حاملة جائزة «نوبل» وصاحبة الإسهامات الإنسانية الكبرى بين فقراء «الهند» وغيرهم من تعساء العالم.
أفكر فى ذلك وأنا أتذكر أن أباً مصرياً قد قتل ابنته التى تزوجت زواجاً رسمياً صحيحاً من شاب أحبته من دينها ومتوافق معها فى الظروف الاجتماعية والمرحلة العمرية، ولكن الأب لم يكن راضياً عنه ولا محباً له! .. إنها الفروق الثقافية الهائلة التى تفصل بين البشر وتوضح المسافة الكبيرة بين درجات السلوك الإنسانى وردود الفعل وفقاً لمعايير ثقافية واجتماعية.
.. إنها «ديانا» صاحبة الابتسامة الغامضة والنظرة الحزينة التى تمردت على تقاليد العرش وهجرت حياة القصر، وانطلقت فى طريقها تبحث عن الحب الصادق والدفء الحقيقى بعيداً عن برودة «البروتوكول» الملكى وأضواء الحياة الصاخبة، لأنها آمنت بـ«ديانا» الإنسانة ولم تلهث وراء «ديانا» الأميرة