من المؤكد أن استنشاق أولى نسمات الربيع لن يكون له مذاق خاص وطابع مميز إلا داخل ربوع مصر المحروسة، لأن هذا العيد بكل طقوسه وممارساته هو عادة مصرية صميمة... يوم شم النسيم تعلن الهوية المصرية عن نفسها بوضوح داخل كل البيوت فى مصر وإن اختلفت المظاهر.
ربما يكون بقاء تلك الهوية متمثلاً فى صورة سيدة قد تكون جدة أو أماً استيقظت مع صوت المؤذن أو أجراس الكنيسة، التى تصدح صبيحة ذلك اليوم، لتفتح الشرفة لتستقبل أشعة شمس يوم جديد مختلف فى مناخه عن سابقيه، وراحت تنثر البذور فى الأركان، وتنتقى حبات صغيرة من البصل لتدشه على الأعتاب..
ويشارك النيل فى ذلك الاحتفال الذى يبدو فى ذلك اليوم جميلاً ورائعاً ورحباً لكل زائريه الذين جاءوا ليأخذوا منه قطرات قد مسها النسيم، حاملين معهم لفائف السمك المملح والبصل.. ليحيوا أحد أهم الأعياد عند المصريين القدماء، الذين كانوا يقيمون فيه أفراحاً عظيمة، وتغنى فيها السيدات النبيلات المشتركات فى المواكب مع أصوات القيثارات وأغانى الغرام والأناشيد التى تصاحبها حركات راقصة.
واحتوت السنة المصرية القديمة على العديد من الأعياد، التى ارتبطت بالتقويم مثل رأس السنة، وأعياد كل شهرين وبدايات الفصول، وكان من بين تلك الأعياد عيد "الشمو" وهو الذى اشتق منه الاسم الحالى لعيد الربيع "شم النسيم" كان الربيع الذى يغير معالم ما بين الفصول عيداً عند المصريين القدماء لارتباطه بالشمس والنهر، يتناولون فيه السمك والبصل والبيض وتلك المأكولات التى بقيت إلى الآن مظهراً ثابتاً من مظاهر الاحتفالات بأعياد الربيع فى مصر منذ نهايات العصر الفرعونى وبدايات القبطى، وبات تناول المصريين لهذه الأطعمة من العادات الباقية حتى اليوم.
السمك المجفف كان أهم مظاهر الاحتفاء بهذا العيد "الفسيخ" وكان المصريون القدامى يجلبونه من مدينة "إسنا" جنوب مصر، التى كانت تشتهر آنذاك بصناعة وتقديم الأسماك المجففة كنذور للآلهة داخل المعابد، حتى صار السمك المجفف رمزاً للمدينة فى العصر البطلمى "لاتيبوس" أى مدينة قشر البياض.
وعرف المصريون أنواعاً من الأسماك حرصوا على رسمها على جدران مقابرهم، مثل سمك البورى والبياض والبلطى، كما عرفوا البطارخ منذ عصر الأهرام حتى أنهم فى أحد الأعياد كانوا يأكلون السمك المقلى أمام أبواب المنازل فى وقت واحد، كما يحدثنا الأثريون وعلماء المصريات أن أبرز الشعائر التى كان المؤمنون يقومون بها فى الأعياد، كان مدينة منف وهو الطواف حول مبنى مقدس، بالإضافة إلى تقديم الذبائح التى تصاحب الاحتفال، وكانت هناك أنشودة تخلد ذكرى احتفال فى طيبة تقول "ما أشد سرور معبد آمون فى العام الجديد عند ذبح الضحايا عندما يتقبل آمون أشياءه الجديدة وتنحر ثيرانه بالمئات".
وفى أحد أعيادهم أيضاً كان الكهنة يحملون تمثال المعبود ويطوفون به فى موكب مهيب يشارك فيه الجميع، ويؤدى فيه المهرجون والمغنون والراقصون فنونهم، كما تقام العروض المسرحية التى تصور أساطير معينة، وكان الأهالى وليس الكهنة هم الذين يحتفلون بأعياد المعبودات الطيبة الصديقة
والودودة ومن بين هذه المعبودات الإله "بس"، والذى تتوقف فى أثناء الاحتفال به أعمال البناء فى الأهرامات، ربما تلك هى لمحات بسيطة نتبين بها مدى الأهمية التى تمثلها الأعياد والاحتفالات المقدسة بإله معين أو موسم من المواسم كان من أبرز أركان العبادة لدى المصريين القدامى.
كل تلك المظاهر مازلنا نحرص عليها حتى الآن، وكان من بين الأعياد المهمة لدى الفراعنة، حيث حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعى، وهو اليوم الذى يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس فى برج الحمل، وظل مرتبطاً حتى اليوم بالشمس والنهر، وكانت مظاهر الاحتفال به عندهم تقام على ضفاف النيل ووسط الحدائق والساحات المفتوحة وبين الزهور، التى لها مكانة كبيرة فى نفوسهم، حيث تذخر أعمدة المعابد الفرعونية بالأقصر والمزخرفة بطراز "لوتسى" يحاكى باقات براعم الزهور
وقد صور المصريون أنفسهم على جدران مقابرهم ومعابدهم وهم يستنشقون الأزهار فى خشوع يوحى بسحر الزهور ومكانتها لديهم، وكان المصرى القديم يقضى أكثر الأوقات بهجة وإشراقاً وإقبالاً على الحياة فى فصل الربيع، ذلك الفصل الذى تتغير فيه كل الأشياء لتنبض بالحيوية والأمل والجمال، وتحرص فيه النسوة على ارتداء الملابس الشفافة والاهتمام بتصفيف الشعر والإسراف فى استخدام العطور لإظهار مفاتنهن، هكذا كانت وستظل عودة الربيع التى تتميز بتفتح الزهور، تقابل دائماً بفرح وترحاب من عامة المصريين وخاصتهم على مر العصور.