أحوال القلب وعلاجه
إنَّ القلب مضغة صغيرة في صدر الإنسان عظيمة الخطر كبيرة الأثر
صلاحه صلاح للبدن كله وللجوارح جميعها، وفساده فساد للبدن كله
وللجوارح جميعها . عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ
وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ) [1]
فما أعظم خطر هذه المضغة وما أكبر أثرها !! فكل حركة وسكون تقع من
الإنسان وكل فعل أو ترك فرعٌ عن مراد هذه المضغة ، بل لا يمكن
للجوارح أن تتخلف عن ذلك
كما قال بعض السلف
" القلب ملك والأعضاء جنوده ، فإذا طاب الملك طاب الجند
وإذا فسد الملك فسد الجند "
وما أحوج الإنسان إلى العناية بهذه المضغة إصلاحاً وتنقية وتزكية
وتطهيراً ، ومن الدعوات المأثورة في هذا الباب
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
}... اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا { [2]
وإن أهم ما ينبغي مراعاته في هذا المقام معرفة الغاية التي خُلقت القلوب
لأجلها وأوجدت لتحقيقها ألا وهي توحيد الله وإخلاص الدين له
والقلوب في هذا الأمر على قسمين
الأول : قلب مشغول بالله عاقل للحق مفكر في العلم مجتهد في تحقيق هذه
الغاية ، وهو بهذا يكون قد وضع في موضعه الصحيح ، وحينئذ يكون له
وجهان : وجهٌ مقبلٌ على الحق علماً وعملاً سعياً وإذعاناً رغبة وطلباً
تحقيقاً وتطبيقاً . ووجهٌ معرض عن الباطل منصرف عنه حذراً من الوقوع
فيه ، ويقال له : القلب الزاكي، والقلب الطاهر ، والقلب السليم ،
لأن هذه الأسماء تدل على سلامة القلب من الشر وبُعده عن الخبث
وخلاصه من الآفات .
الثاني : قلبٌ منصرف إلى الباطل منحرف عن الغاية التي أوجد لأجلها
وخُلق لتحقيقها ، وله وجهان : وجهٌ مقبلٌ على الباطل مشغول به ،
ووجهٌ معرض عن الحق غير قابل له ، وهما في الحقيقة آفتان :
آفة الصدود عن الحق ، وآفة الإقبال على الباطل ، ولكلٍّ منهما أضراره
الجسيمة ونتائجه الوخيمة .
والباطل الذي ينشغل به القلب عن هذه الغاية نوعان
أولاً : نوع يشغل القلب عن الحق ويزاحم الخير الذي فيه دون أن يعانده
ويصادمه ، كالأفكار والهموم والغموم والأحزان الناشئة عن علائق الدنيا
وشهوات النفس .
ثانياً : نوع يعاند الحق الذي في القلب ويصادمه ويصد عنه ،
مثل الآراء والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع ونحو ذلك .
فالأول يزاحم القلب ، والثاني يصادم ما فيه [3].
وعلاج الأول : بالعودة بالقلب إلى التوحيد الخالص والإيمان الصحيح
الذي خُلق القلب لأجله ، وعدم شغله بأمر آخر .
ومن الأحاديث الواردة في ذلك : ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ :
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ،
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) [4].
وعن أسماء بنت عُميس رضي الله عنها قالت :
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ ؟
اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) [5].
وعن أبي بكرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ :
اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ،
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ) [6].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ :
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ) [7].
وجميع هذه الكلمات الواردة في هذه الأحاديث كلمات إيمان وتوحيد
وإخلاص لله عز وجل وبُعد عن الشرك كله كبيره وصغيره ، وفي هذا أبين
دلالة على أنَّ أعظمَ علاج للكرب هو تجديدُ الإيمان وترديد كلمة التوحيد
(لا إله إلا الله) ، فإنه ما زالت عن العبد شدةٌ ولا ارتفع عنه همٌّ وكربٌ
بمثل توحيد الله وإخلاص الدين له وتحقيق العبادة التي خُلق العبد لأجلها
وأوجد لتحقيقها ، فإن القلب عندما يُعمَر بالتوحيد والإخلاص ويُشغل بهذا
الأمر العظيم الذي هو أعظم الأمور وأجلُّها على الإطلاق تذهب عنه
الكربات وتزول عنه الشدائد والغموم ، ويسْعَدُ غاية السعادة .
قال ابن القيم رحمه الله :
" التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه ، فأمَّا أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها:
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
[العنكبوت:65] ،
وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها
ولذلك فزع إليه يونس, فنجَّاه الله من تلك الظلمات , وفزع إليه أتباع
الرسل فنجوا به مما عُذِّب به المشركون في الدنيا وما أعِدَّ لهم في الآخرة
. ولما فزع إليه فرعون, عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق, لم ينفعه
لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل ؛ هذه سنة الله في عباده
فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد
ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله كربه بالتوحيد
فلا يُلقي في الكرب العظام إلا الشرك ، ولا ينجِّي منها إلا التوحيد
فهو مفزَع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها . وبالله التوفيق"[8] ا.هـ
وعلاج الثاني بالهداية لهذا الدين الحنيف والتوفيق للدخول فيه ،
قال الله تعالى
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ }
[الزمر:22] .
وكل منحرف عن هذا الدين منصرف عن الهدى ؛ فقلبه مريض ولا شفاء
له إلا بالدخول في هذا الدين ، وفي غاية الظمأ والعطش لا يرويه إلا معِين
هذا الدين الصافي ومنهله العذْب .
قال أحد المهتدين لهذا الدين :
" إنَّ غير المسلمين على اختلاف نحَلهم ومللهم ظمأى ، بل يكادون
يهلكون من شدة الظمأ ، وذلك لأنهم لم يجدوا ما يروي ظمأهم في
عقيدتهم البالية - محرَّفة كانت أو مؤلفة من ورث عقولهم - ،
ويا لله العجب كلما شربوا منها ازدادوا ظمأً ، وما كنتُ إلا واحداً من هؤلاء ،
ووالله ما ارتويت إلا من بعد أن نهلت من نهر هذا الدين العذب الصافي
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
[الجاثية:36] "[9].
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
*********
________________
[1] متفق رواه البخاري (52) ومسلم (1599) .
[2] رواه مسلم (2722) .
[3] انظر (طريق الوصول) لابن سعدي ص (162-163) .
[4] رواه البخاري (6346) ، ومسلم (2703) .
[5] رواه أبو داود (1525) ، وابن ماجه (3882) ،
وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب) (1824).
[6] رواه أبو داود (5090) ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع) (3388).
[7] رواه الترمذي (3505) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع ) (3383) .
[8] (الفوائد ) ص ( 95-96) .
[9] من مذكرة لمحمد حسين عبد الله الصيني .