سؤالان حيرا الفلاسفة والعلماء وما زالا حتى الآن ألا وهما: ما طبيعة الذاكرة؟ وأين نختزن الذكريات؟ ولقد ذهب العلماء في الجوانب عن هذين السؤالين مذاهب شتى ولكن الدراسات المتأخرة والتجارب العلمية الجارية ولا سيماً ما اتصل منها بجراحة الدماغ ألقت أضواء جديدة ومفيدة على الذاكرة سنحاول أن نقدم – في هذه العجالة – فكرة عنها.
هذا ومن المعلوم أن أيّة فرضية يجب أن تعتمد في التحقق من صحتها أو عدمها على دلائل محسوسة أو منطقية. وحتى وقت قريب كانت الدلائل المتوفرة على كيفية عمل الدماغ في إدراكه للحقائق وتذكره لها قليلة وبصورة خاصة كان مجهولاً كيفية اختزان الذكريات ومكان اختزانها في البلايين الأثني عشرة من خلايا الدماغ. وكان العلماء يتساءلون عن مقدار المخزون من الذكريات، وعما إذا كانت الذكريات تتلاشى أم تبعث بكاملها أو يبقى جزء منها؟ كما كانوا يتساءلون عما إذا كانت الذاكرة عامة أو متخصصة؟ وكانوا أخيراً يتساءلون عن السبب في أن إمكانية استحضار بعض الذكريات أسهل من استحضار البعض الآخر؟
أن واحداً من أشهر الباحثين في الذاكرة هو الدكتور (وايلد بنفيلد) من جامعة (ماك غيل) في مونتريال بكندا وقد بدأ في عام 1951 بتقديم معلومات مثيرة عن الذاكرة نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وسواها.
في أثناء إجرائه عمليات جراحية دماغية للمرضى المصابين بالصرع قام بنفيلد بإجراء عدة تجارب كان فيها يلمس اللحاء الصدغي لدماغ المريض مستعملاً تياراً كهربائياً ضعيفاً ماراً من خلايا مسبار غالفاني، ولقد تجمعت لديه ملاحظات قيمة خلال سنوات عدة وبعد تجارب كثيرة. وفي كل حالة من هذه الحالات كان المريض يخدر تخديراً موضعياً وبذلك كان المريض واعياً تماماً في أثناء عملية السبر للقشرة الدماغية وكان قادراً على التحدث مع الدكتور بنفيلد. ولقد قال كل هؤلاء المرضى الذين أجريت عليهم التجارب أنهم سمعوا أشياء معجبة. ولقد تراءى من خلال أقوال هؤلاء الذين خضعوا للتجربة أن كل شيء يستمر في وعينا يسجل بالتفصيل ويختزن في الدماغ ويمكن استعادته في الحاضر. ولقد وجد (بنفيلد) أنّ اللاحب (القطب الكهربائي) المثير يمكن أن يستخرج الذكريات من ذاكرة الإنسان بوضوح وبشكل إجباري، حتى لقد قال (بنفيلد) أنّ الخبرة التي يستحصل عليها بهذه الطريقة تقف عندما يسحب اللاحب ويمكن أن تعاد حينما يعاد اللاحب ولقد قدم على ذلك الأمثلة التالية:
هناك أوّلاً حالة المريض (س. ب) الذي أثير في النقطة 19 في الالتفاف الأوّل من الفص الصدغي الأيمن والذي قال "لقد كان ثمة بيانو وكان هناك من يعزف. أنني أستطيع سماع الأغنية". ولما أثيرت النقطة مرة أخرى وبدون تحذير قال المريض، بعضهم يتكلم إلى أحد آخر". وذكر اسماً ولكني لم أستطع فهمه... لقد كان الأمر يشبه الحلم. ولقد أثيرت النقطة نفسها مرة ثالثة. وبدون تحذير فقال المريض بثورة عفوية "أو – ماري، وماري – إن أحدهم يغني هذه الأغنية". ولما أثيرت النقطة عينها مرة رابعة سمع المريض الأغنية ذاتها وقال أنها لازمة برنامج إذاعي معيّن.
وحين أثيرت النقطة 16 قال المريض واللاحب في موضعه: "إن شيئاً ما يعيد ذكرى ما إلى ذاكرتي، إنني أستطيع رؤية شركة المياه الغازية والمختبر. وحينئذ قيل للمريض أنّه أثير ولكن اللاحب لم يكن موضوعاً في دماغه فقال أنّه لا يرى ولا يسمع شيئاً.
وفي حالة أخرى للمريضة (د. ف) أثيرت نقطة موجودة على المساحة العليا من الفص الصدغي الأيمن وذلك ضمن شق سلفيوس فسمعت المريضة أغنية شائعة معيّنة تعزف من قبل جوقة موسيقية. ولما تكررت الإثارة تكرر سماع الأغنية نفسها طالما كان اللاحب في موضعه وقد أخذت المريضة تدندن اللحن نفسه.
أمّا المريض (ل. ج) فقد حمل على أن يستشعر من جديد أمراً قال أنّه خبره من قبل. أما حين أثير في نقطة صدغية أخرى فقد سبب له ذلك رؤية رجل وكلب يعيشان عن طريق قرب منزله في الريف. ولقد سمعت أمرأة أخرى صوتاً لم تفهمه تماماً وذلك حين أثير الالتفاف الصدغي الأوّل عندها. وحين أرجع اللاحب مرة أخرى إلى النقطة ذاتها سمعت صوتاً ينادي "جمي، جمي" وهو اسم الدلع لزوجها الشاب الذي تزوجته مؤخراً، وما استنتجه بنفيلد هو:
1- إن ما أثاره اللاحب كان ذكرى واحدة وليس مزيجاً من الذكريات أو تعمماً.
2- واستنتاج آخر من استنتاجات بنفيلد هو أنّ الاستجابة للاحب لم تكن اختيارية. يقول في ذلك:
"تحت تأثير المسار المجبر كانت تبدو خبرة ما مألوفة في وعي المريض سواء أراد تركيز انتباهه عليها أم لم يرد. إن أغنية ما كانت قد حدثت في الماضي وفي مناسبة معينة. لقد كان يجد نفسه منغمساً في وضع معين كان قد خبره في السابق. أنّه وضع مألوف لديه وهو الممثل والنظارة في الوقت ذاته".
3- ولعل أهم مكتشفاته وأعمقها معنى هو اكتشافه أنّ الحوادث الماضية لا تسجل وحدها بالتفصيلين ولكن يسجل معها المشاعر التي رافقت تلك الحوادث وامتزجت بها. إنّ الحادث وما رافقه من مشاعر كانت تسجل في دماغ الإنسان بحيث أنّه لا يمكن إحياء واحد منها دون إحياء الآخر.
"إنّ المجرب عليه كان يستشعر من جديد الانفعالات التي أحدثتها في نفسه الأحداث الأصلية. وهو يعي التفسيرات ذاتها – سواء أكانت صحيحة أم خاطئة – التي كان قد أعطاها في الخبرة الأصلية. وهكذا فإنّ الذكريات المستعادة لا تكون إعادتها إعادة فوتوغرافية (تصويرية) دقيقة ولا إعادة فوتوغرافية (صوتية) مضبوطة للمشاهد الماضية. إنّها إعادة لما كان المريض قد رأى وسمع وما شعر به وفهمه من الحادث.
والذكريات تستثار يومياً وفي الحياة العادية بالطريقة نفسها التي استثارها بنفيلد بمسباره، وفي الحالتين يمكننا أن نصف التذكر بأنّه إعادة الحياة أكثر منه مجرد تذكر. على أنّه لابدّ من التفريق بين أن يعيش الإنسان الحادث من جديد وهوم ما سميناه بـ(إعادة الحياة) وهو أمر عفوي وشعور لا إرادي وبين عملية التذكر وهو ما نرى أن نقصره على العملية الواعية الإرادية بعملية التفكير في الحادث الماضي الذي عدنا وعشناه من جديد.
وفيما يلي إشارة إلى تقررين أدلى بهما مريضان يوضحان كيفية إحياء الإثارة الحاضرة للمشاعر الماضية.
قررت سيدة في الأربعين من عمرها إنّها كانت تسير في الشارع ذات صباح مرت بمخزن يبيع الأدوات الموسيقية فسمعت نغماً موسيقياً أشعرها بكآبة سوداوية: لقد شعرت بحزن شديد لم تفهمه وكان من الشدة بحيث لا يمكن احتماله.
ولقد عجزت عن فهم سبب هذا الحزن فقصدت محللاً نفسياً، وقصت عليه قصتها، ويعد أن استمع إليها ملياً سألها عما إذا كان في حياتها الباكرة ما ذكرها به هذا اللحن.. فلم تستطع تذكر أي صلة بين هذا اللحن وحزنها الطارىء الشديد. ولكنها – وفيما بعد – هتفت للمحلل النفسي تقول له أنها بعد أن دندنت اللحن لنفسها مراراً تذكرت بصورة فجائية أمها وقد جلست إلى البيانون وهي تعزف هذا اللحن بالذات. ولقد ماتت الأم حين كانت السيدة في الخامسة من عمرها. وقد كان موت الأم سبباً من ألم وكآبة شديدين حدثاً للفتاة الصغيرة. وامتدا عندها فترة من الزمن بالرغم من الجهود الكثيرة التي بذلها الوالد الذي حاول أن يحل العمة محل الأُم عند هذه الصغيرة. ولم تسمع المريضة هذا اللحن ولم تذكر أمها وهي تعزفه منذ ذلك الحين حتى مرت بمخزن الأدوات الموسيقية. والجدير بالذكر أنّ المشاعر السعيدة تعاش من جديد بالطريقة عينها.
وكلنا يعلم كيف أن رائحة أو صوتاً أو إشارة تسبب سعادة عارمة لنا. وقد لا تدوم هذه السعادة غير ثوان، وما لم نحاول تذكر السبب في هذه السعادة التي سببتها الرائحة أو الصوت أو الإشارة فإننا قد لا نصل إلى معرفة السبب ولكن هذا لا يمنع أن سعادتنا حقيقية وواضحة.
لقد روى إنسان هذا الحادث: أنّه كان يسير في شارع قرب حديقة الكابيتول في (ساكرامنتو) في أمريكا حين شم رائحة الليمون والكبريت الذي تعفر به الأشجار، وبالرغم من كراهية رائحة الكبريت فإنّ هذا الرجل شعر بسعادة غامرة. ولقد كان من السهل عليه أن يعرف السبب إذ أنّه تذكر طفولته في الريف وذكر أباه الذي كان يعفر أشجار التفاح بالكبريت في الربيع وبعد شتاء طويل قاس، كما تذكر اخضرار الأشجار وبرعمتها وغير ذلك من مشاهد طفولته السعيدة ومشاهد الربيع البهية.
4- واستنتاج آخر من استنتاجات بنفيلد وهو قوله: أنّ السجل الذاكري يبقى سليماً بعد اندثار قدرة الإنسان على تذكره، يقول بنفيلد: "إنّ التذكر الناتج عن إثارة اللحاء الصدغي يحتفظ بالصفات المفصلة للخبرة الأصلية. ولذلك فإنّه حين تستثار الذكرى في وعي المريض تبدو الخبرة وكأنها جارية في الحاضر، ولعل السبب في ذلك أنها تفرض نفسها على انتباهه بقوة لا تقاوم. ولا يستطيع الإنسان أن يدرك أنها ذكرى من ذكريات الماضي إلا بعد أن تنقضي وتتلاشى.
5- والاستنتاج الخامس الذي توصل إليه بنفيلد نتيجة لتجاربه وبحوثه هو أنّ الدماغ يعمل بوصفه مسجلة ذات أمانة بالغة وهي تسجل كل خبرة تحدث منذ وقت الولادة وحتى قبل الولادة. وحتى قبل الولادة. وبالرغم من أن تخزين المعلومات في الدماغ عليه "كيماوية" من دون ريب تشتمل على ترميز لم نستطع فهم طبيعته حتى الآن، وبالرغم من أنّه في تشبيه الدماغ بمسجلة ذات أمانة بالغة بتبسيط زائد للأمور، نقول بالرغم من هذا كله فإنّ هذا التشبيه قد أثبت أنّه ذو فائدة كبيرة في فهم الذاكرة. والمهم أنّه أياً كانت الطريقة التي يحصل فيها التسجيل فإنّ هذا التسجيل ذو أمانة بالغة.
يقول بنفيلد: "حين ينتبه إنسان سوي إنتباهاً واعياً لشيء ما فإنّه يسجله في الوقت نفسه في اللحاء الصدغي من كل نصف كرة دماغية".
6- وهذه التسجيلات تكون متتالية ومتلاحقة. يقول بنفيلد "حين يدخل اللاحب إلى اللحاء الذاكري فقد ينتج صورة ولكن الصورة لا تكون في المعتاد ساكنة. إنها تتغير كما تغيرت حين تم الحصول عليها.. إنها تتبع الحوادث التي لوحظت في الأصل وفي الثواني والدقائق المتلاحقة. إنّ الأغنية التي تنتجها الإثارة اللحائية تتقدم رويداً رويداً من جملة أخرى ومن بيت إلى لازمة".
ويستنتج بعد ذلك أنّ الخيط الناظم للاستمرار بالنسبة للذكريات المستعادة هو الزمان، ذلك بأنّ النمط الأصلي كان قد تم في تتال زمني. يقول بنفيلد: "يبدو أن خيط التتالي الزمني يربط فيما بين عناصر الذكريات. ويبدو كذلك أنّ العناصر الحسية التي انتبه إليها الإنسان هي التي تسجل وليس كل الإشارات الحسية التي تقع باستمرار على الجملة العصبية المركزية".
ويمكن القول بالنظر لتعقد الذكريات وتواليها إن لكل ذكرى نستطيع تذكرها درباً عصبياً خاصاً.
7- ومن الأمور ذات الأهمية الخاصة في فهمنا لكيفية تأثير الماضي في الحاضر، وما يلاحظ من أنّ اللحاء الصدغي يستخدم بوضوح في تفسير الخبرات الحاضرة يقول بنفيلد: "يمكن إحداث الأوهام... بإثارة اللحاء الصدغي... والاضطراب الحاصل هو اضطراب في الحكم بالنسبة للخبرة الحاضرة الحكم بأنّ الخبرة مألوفة أو غريبة أو شاذة، الحكم بأنّ المسافات والحجوم متغيرة، حتى كون الوضع الحاضر مخيفاً.
إنّ هذه الأوهام إدراك ويقود النظر فيها إلى الاعتقاد بأنّ الخبرة الجديدة تصنف مباشرة جنباً إلى جنب مع خبرة مماثلة سابقة بحيث أنّ الحكم على الفروق ووجوه الشبه يصبح ممكناً. ومثال ذلك أنّه بعد مضي وقت من الزمن قد يصبح من الصعب على الإنسان أن يستحضر ذكرى صورة صديق قديم كما بدت له قبل سنوات عدة، ومع ذلك فإننا لا نكاد نقابل هذا الصديق بصورة غير متوقعة حتى لا نلاحظ حالاً الفرق بين الصورتين الحاضرة والسابقة. إنّ الإنسان يلاحظ الخطوط الجديدة في وجهه والتغير في شعره وفي انحناء كتفيه".
فما الذي نستخلص مما تقدم أموراً أربعة على جانب كبير من الأهمية والخطورة، ألا وهي:
1- يعمل الدماغ عمل مسجلة ذات أمانة بالغة.
2- المشاعر التي رافقت الخبرات الماضية كذلك مع تلك الخبرات وتكون جزءاً لا يتجزأ منها.
3- يمكن للإنسان أن يوجد في حالتين في الوقت نفسه: لقد كان المريض يعلم أنّه على مائدة العمليات وأنّه يكلم بنفيلد، وكان مع ذلك يعلم أنّه يرى معمل الماء الغازي والمختبر، لقد كان ازدواجاً بمعنى أنّه كان في الوقت ذاته داخل الخبرة وخارجها أي يختبرها ويلاحظها.
4- إنّ هذه الخبرات المسجلة والمشاعر المصاحبة لها والمرتبطة بها يمكن استحضارها الآن وفي أي وقت وبنفس الدرجة من الحيوية التي كانت عليها عندما حدثت لأوّل مرّة. وهذه الخبرات والمشاعر لا يمكن استحضارها واستعادتها فقط وإنما يمكن عيشها من جديد، حتى لقد قال أحد العلماء:
"أنني لا أستطيع تذكر مشاعري فحسب ولكني أستطيع أن أستشعر المشاعر نفسها الآن ومن جديد".
وإذا كان لابدّ لنا من استخلاص علمي واضح من تجارب بنفيلد فهو أن تجارب هذا العالم أثبتت أن وظيفة التذكر ليست أمراً نفسياً فحسب ولكنها أمر بيولوجي أيضاً. صحيح أنّنا ما زلنا نجهل الكيفية الدقيقة لاتصال الجسد بالنفس ولكنننا نستطيع أن نقول نتيجة للاطلاع على هذه التجارب أنّ الدراسات الحاضرة والبحوث الجارية ولا سيما في مضمار الوراثة والبيئة وأسسها البيولوجية ستوضح لنا الكثير من الأمور التي كانت مغلقة على إفهامنا.