هل تساءلت يوماً عن سبب غفلة بعض الناس عن عبادة الله؟
وهل حاولت سبر أسباب جرائمهم على المعاصي وإصرارهم على المخالفات؟
إنك لو تأملت وتمعنت لوجدت في المسألة سراً عجيباً من وفق إلى فقهه والعمل به فقد وفق إلى الخير
العظيم.. إنه الإيمان.
إنه العقيدة.. التي ترددها الألسن وتغفل عنها القلوب والأعين..
إنه الإيمان الذي إذا ضعف في القلوب، أشربت الغفلة والنسيان، والجرأة والعصيان.
إنه الإيمان الذي إذا عمر القلوب، نورها وقواها وبصرها حتى لكأنما الغيب عنها شهادة.
إنه الإيمان بالله، وذلك الكنز الذي ما امتلكه مسلم إلا أغناه، ورفع قدره، وأعلاه، وبصره مصالحه، وأسماه،
وعافاه من الأدواء وأشفاه.
فلولا الجهل الذي غمر العقول فبلدها، وغطى القلوب فأعماها، لأبصر من شواهد الحق، والسكينة كل
السكينة، حتى لخاله الناظر إليه.. حلماً ساكناً من شدة استكانته التي ولدتها معرفته التامة بالله.
وتعال أخي.. نؤمن بربنا ساعة.. نجوب شعبة من صفاته.. ونرى مالها من عظيم الأثر على المتدبر لها.
لا شيء يخفى منك على الله
لو أن أحدنا عرف الله كما يحب.. وألزم نفسه العمل بما عرف.. لما أخطأه خير أبداً.. ولغمره الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.
فلله من الصفات والأسماء ما لو تدبرها المؤمن تدبراً جاداً مسؤولاً.. لذهل ذهولاً.. وللجم لسانه وحركته وقتاً
طويلاً.. مستسلماً في نفسه وأعماق حسه لعظمة الخالق.. وعظمة شأنه..
{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]
تذكر أن الله يراك
تأمل في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]
فلا تحسبه غافلاً عن عصيانك.. أو عاجزاً عن عقابك.. كلا فأنت تحت رقابته تحيا.. {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ
خَبِيرَاً بَصِيراً} [الإسراء: 17]
أين تمضي وقد أحيط بك؟!
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]
فانظر كيف استنكر الله جل وعلا من العاصي جهله برؤية الله له.. وهو سبحانه أعظم وأظهر من أن يخفى
على أحد.
فيا من أدمنت على الغفلة أقلع.. فالغطاء مكشوف.. ويامن أسرفت على نفسك أحجم.. فإن الله يراك.. فلا
تتجرأ على الله.. وأنت مؤمن برقابته لك.. ورؤيته لك حين تعصيه.. ولا تغتر بإمهال الله لك على المعصية.. فقد
يملي لك ثم يأخذك على غرة..
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر: 45]
فانظر كيف جمع الله جل وعلا في هذه الآية بين تأخيره لعباده العصاة إلى يوم الحساب، وبين بصره لهم
حين عصيانهم، فاحذر أن تغرك السلامة!!
تذكر أن الله يسمعك
فهو سبحانه السميع البصير.. {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]
يسمع الكلام والهمس.. ويعلم ماتوسوس به النفس.. وما يدور في العقل والحس..
فبالله اين العقول عن هذا وقد غفلت؟
وأين القلوب عن هذا وقد جهلت؟
وأين الأفهام عن هذا وقد أغلقت؟
{وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]
سرك يا هذا مكشوف وهمك مسموع.. فأين تخفى عن الله وأين تغيب؟!
ولله در الأوزاعي حين قال لأخ له: "أما بعد: فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم
وليلة، فاحذر الله، والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام".
فتدبر في هذه الوصية.. وكيف اختزلت معرفة الله واطلاعه في كلمتين: فقد أحيط بك من كل جانب!
فانظر إلى ما تقول.. فإنه محصي عليك.. يسمعه ربك.. ويسجله الملكان.. وتشهد عليه وعلى كل فعل
جوارحك..
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
لم ينسه الملكان حين نسيته *** بل سجلاه وأنت لاه تلعب
فإن أحببت أن تتأمل في حقيقة سمع الله لك.. فانظر إلى آية المجادلة.. حيث أتت صحابية تجادل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتشتكي إليه في السر من ظلم زوجها.. فلم يكن يسمعها أحد..حتى عائشة رضي
الله عنها التي كانت في الحجرة القريبة لم تسمع صوتها وشكواها بينما سمع الله ذلك فأنزل فيها وحياً
يحمل في طياته إنذاراً لكل متكلم بأن الله يراه ويسمعه..
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
[المجادلة: 1].
فكما سمع الله جل وعلا تلك المرأة تشتكي وتجادل.. فهو كذلك يسمعك حين تتكلم وتهمس.. وهي تنطق
وتلفظ.. فانظر ماذا تقول!
فإن عامة العذاب في اللسان والفرج.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق».
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: «الفم والفرج».
تذكر أن الله رقيب عليك
بعمله سبحانه.. وبصره وسمعه.. يراقبك ويطلع على أحوالك فلا تخفى عليه منك خافية..
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19]
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 217-219]
{إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبــن الله يغفــل ساعـة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
فيا لطهر نفس أعملت هذه الحقائق العظائم.. فخافت ربها في أعماق الخلوات.. وألزمت حسها في رقابته
في حماة.. قد أسكنها عظمته.. وأخشعها قدرته.. فهي في جوف صاحبها كالحلس البالي تعتصر حرة على
تذكر عصيان الماضي.. وترجو رحمة من الله على العيوب القواضي.. تذكر خيره وفضله فتستبشر وتأمل
وتتذكر عذابه فتخافه وتوجل.. فدموعها حيناً تنساب حلاوة من لوعة الاستبشار.. وحيناً تذرف مرارة من
مخافة النار..
أسأت ولم أحسن وجئتك تائباً *** وأنى لعبد من مواليه مهرب
يؤمل غفراناً فـــإن خــاب ظنــه *** فما أحد منه على الأرض أحبب
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6]
فلا تظنن أخي أن الله غافل عنك {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]
فمن جهل اطلاع الله عليه.. وغره إمهاله.. فلا يعني أن الله لا يراه وأنه لا يعلم أعماله ومثواه!
وتأمل في حال من غفلوا عن الله.. وظنوا أنه كان غافلاً عن أعمالهم.. فلم يقيموا وزناً لعلمه بهم.. ولم
يردعهم رقابته لهم تأمل كيف يكون حالهم يوم القيامة.. وقد بهتوا حين علموا أن الله كان بهم عليماً بصيراً
سميعاً وكان عليهم رقيباً، بل وحتى جلدهم الذي هو منهم قد شهد عليهم بما كانوا يصنعون..
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا
تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21-23]
فكن مستحضراً لعلم الله بك.. موقناً بأن سمعك.. وبصرك وجلدك ويدك.. كلها جنود تشهد عليك يوم
الحساب إن خيراً فخير.. وإن شراً فشر.
فيالله.. ما أضعف الإنسان.. وما أجهله.. يظن نفسه وحيداً فريداً إذا خلا ويجهل أنه محاط بالرقابة من كل
جانب.. فربه عليه رقيب.. وذاته عليه رقيبة.. وحتى الأرض التي تحمله عليه رقيبة..
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]
أي: تشهد بما جرى فوقها من خير أو شر!
تأمل
في دعوة إبراهيم.. {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي
السَّمَاء} [إبراهيم: 38]
ففيها اعتراف جميل بعلم الله سبحانه بعلانية الأمور وخفاياها.
يــا غاديــاً في غفلــة ورائحــاً *** إلى متى تستحسن القبائحا
وكـــم إلى كـم لا تخاف موقفاً*** يستنطـــق الله بــه الجوارحا
واعــجبــاً منــك وأنــت مبصـــرُ*** كيف تجنبت الطريق الواضحا
وكيف ترضى أن تكون خاسراً *** يوم يفــوز من يكــون رابحـــاً
فاستح من الله إذن
فإنما مقتضى الإيمان باطلاعه عليك.. حياؤك منه.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفش السلام
وابذل الطعام، واستح من الله استحياءك رجلاً من أهلك، وإن أسأت فأحسن ولتحسن خلقك ما استطعت».
قيل لحاتم الأصم: علام بنيت أمرك في التوكل؟
قال: على خصال أربع: علمت أن رزفي لا يأكله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله
غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستح
منه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء»
قلنا: يا نبي الله إنا نستحي والحمدلله
قال: «ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس ما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وأن
تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».
وعنه صلى الله عليه وسلم أيضاً قال: «أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك».
قال أحد السلف: "استح من الله لقربه منك، وخف من الله لقدرته عليك".
ولذلك أخي جاء في الحديث أيضاً: «الحياء من الإيمان».
فأين تمضي..؟!
أين ستمضي؟! وأين ستختفي؟! والله معك بعلمه وبصره وسمعه في كل مكان، أينما حللت وأينما ارتحلت!
كيف سيتسرك غطاء؟!
وكيف ستحجبك ظلماء؟!
وربك الرقيب لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء! كيف تكتم سرك في حسك، وهو الذي يعلم
وسوسة نفسك، ويسمع تمتمتة همسك؟!
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]
فاستح أخي من الله.. وألزم نفسك تذكره.. بمالازمة ذكره.. وتسبيحه وتعظيمه بلسانك وقلبك فإن ذلك
أعظم من يثبتك على استشعار رقابته وأنه أحاط بك علماً.. وأنه أقرب إليك من حبل الوريد..
قال الفضيل بن عياض: "رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في
الآخرة".
وقال مالك بن دينار: "خرج أهل الدنيا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيب شيء فيها".
قيل: وما هو؟
قال: "معرفة الله تعالى"
واعلم أن من السلف من كان لا يقوى على رفع بصره إلى السماء من شدة ما يعلم من رقابة الله عليه.. وما
عساه أن يصيبه من غفلة أو خطأ.
وهذا والله من عمق الإيمان في القلوب.. وصحة العقيدة في النفوس.
فأين أنت من معرفة الله؟
وأين أنت من عمله بك؟
وهو سبحانه علام الغيوب..
جعلني الله وإياك ممن يقدرونه حق قدره.. ويخشونه فلا يعصون أمره..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمع